في بعض شؤون الثقافة: اليَمنُ السَّعيدُ أو أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ

لا شَيءَ مِثْلُ الدين يُتَّخَذُ تِعلّةً لِهَدم الأوطان. ولنا في اليَمنِ السعيدِ المِثال على مَرّ الزمان.

كان اليَمنُ مَهدَ الحَضارات ورَمزَ استغلال الإنسان للطبيعة المُستَعصيّة. رَوى فيه القرآنُ القَصَصَ . رَوى عن مملكة سَبأ التي سَخّرت الماءَ وبَنت سُدَّ مَأرب وكَانَ لها فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. ورَوى عن عادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ. وروى عن ثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، واتّخذوا من السهول قُصوراً ونَحتوا من الجبال بُيوتاً. لقد جَعلوا اليَمنَ خِصباً ورفاهاً وسَعادةً، حَتّى سَمّتْهُ الثقافاتُ سَعيداً. وكان اليَمنُ في جَنوب الجزيرة العربيّة فعَمّ الخصبُ والرفاهُ والسعادةُ الجَنوبَ. هنا كانتْ المَدنيّةُ ولِينُ العَيش والأدبُ والظرفُ. هنا كانت التجارةُ والتبادلُ الحُرُّ. هنا كان العطرُ وكانت البهاراتُ وكُلُّ مظاهر الزينة. هنا كانتْ مدينةُ عَدن جَنّةً على وَجهِ الأرض، فاستعارت التوراةُ ثُمّ القرآنُ اسمَها اسماً للجنّة. فكانت الجَنّاتُ العَدْنُ.

أثار نَجاحُ اليَمن السّعيد الحاسدين. أثار الملوكَ الذين إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً. أثار شَمالَ الجَزيرة الذي كان قَحطاً وأعراباً مُنافقين كما سَمّاهم القرآنُ، وبَدواً لا يَصلحونَ. كانوا لا يَعرفون غَيرَ النّهب والغَزوة وسَبْي البناتِ والبنينَ. سَعوا إلى اليَمنِ السّعيد يُهدّمونَه. وكُلّما بُعثَ اليَمنُ من جَديد عادوا إليه يُهدّمونَ ويُدمّرونَ ويُشتّتون أهله الذين اختاروا السعادةَ مَنهجاً وسِعةَ العيش نَمطاً والحرّيةَ مَكسباً لا يُفوّتونَ فيه.

وقد اتّخذت الغاراتُ على اليَمن السّعيد الدّينَ تِعلّةً للإغارة. فسُليمانُ وجُندهُ من الإنس والجان، نَزلوا اليَمنَ إثرَ وشاية من هُدهُدٍ كان عَيْنَ سُليمانَ. جاء مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، قال: وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. ثار سُليمانُ والمَلأُ والإنسُ والجانُ على المَرأة التي تَملكُ شَعباً آمناً وأوتيتْ من كلّ شَيء ولها عَرشٌ عَظيم. وحتّى يُشرّعَ لهم الهُدهُدُ أمرَ الخروج، قال: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ. سعى سُليمانُ إلى سَبإ يُسقطُ بَلقيسَ ويَستحوذُ باسم ربّه على اليمن السعيد. ولم تَنفعْ بَلقيسَ وأهلَها الهَديّةُ التي أرسلتها إلى سُليمانَ. لم يَردَّ الودَّ بالودّ بل قال: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ. ففعلَ وأدخلَ بلقيسَ الصّرحَ لتكشفَ له عن الساق. ثمّ أرسلَ عليهم اللهُ سَيلَ العَرِم يَهْدمُ السُدَّ الذي شيّدوه وأصابَهم بالطوفان.

وفي اليمن السعيد كانت عادٌ مَدنيّةً وحَضارةً وازدهاراً. اتّخذ أهلُها المصانعَ والبنيانَ الشامخَ. جاءهم أخوهم هُودٌ يُنذرهم قال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ؟ لم يَفهموا إنذارَ هُودٍ. ما ضَرّ أنْ يَبْنوا بكلّ مكان مرتفع بُنياناً مُحكماً هائلاً؟ ما ضَرَّ أنْ يَتّخذوا المصانعَ والبروج المُشيّدة والبنيانُ المُخلّد؟ لم يَفهموا لماذا يُريد أخوهم هودٌ أنْ لا يُشيّدوا العمران ويختاروا التحضّر والمدنيّة؟ فاتّخذَ الدينَ تِعلّةً واتّهمهم بالتطاول على ربّه. وما هي إلاّ لحظة حتّى أخذتْهم ريحٌ فيها عذاب أليم، تُدمّرُ كلّ شيء. أُهلكوا بالريح الصّرصر العاتية فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. هلكت عادٌ فَلِمَ هَلكت؟

وهَلكتْ ثمودُ في ناقة عَقرتْها. فماذا كان ذَنبُها، والناقةُ خُلقتْ للعَقر والنّحر؟ لماذا أُرسلتْ النَّاقَةُ فِتْنَةً لَهُمْ؟ لماذا جاءهم أخوهم صالحٌ يُفتي ويقول: هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ؟ لماذا دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ، فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ؟ لا ذَنبَ لثمود غير نَقضها البداوة المتوحّشة التي تُمثّلها هذه الناقة المُرسلة. لا ذَنبَ لها غيرُ اتّخاذها المدنيّةَ والتحضّرَ سبيلاً إلى النهوض بأهلها. فإذا الدينُ هنا تِعلّةٌ ليس غيرُ تُتّخَذُ للإطاحة باليمن السعيد الذي عصى أمر الأعراب البدو الذين حافظوا على نَمط العيش الذي يَجعلُ الرجلَ قوّاماً على ألف امرأة، ويَجعله مُتوحّشاً يَنفي المدنيّةَ التي تَمنحُ الحريّةَ والسعادةَ وتَمنحُ المرأةَ الاستقلالَ والسيادةَ.

لا شيءَ تَغيّرَ اليومَ. لا شيءَ تَغيّرَ وأعرابُ شَمال الجزيرة المُتوحّشونَ يَضربون مُنذ أربع سَنوات كاملة الجنوبَ. يَضربون اليَمنَ الذي كان أمسِ سَعيداً. ها هو اليومَ خَرابٌ. وما زالوا يَضربونَه. حِلفٌ من بقايا المنافقين، يَرأسُهم منذ ألفِ ألفِ عام شَيخُ القبيلة الذي حَبس النساءَ في الخُدور، وفَصل في المدارس والمعاهد والجامعات الإناثَ عن الذكور. واستعملَ الدين تِعلّة في كلّ أمر، يُخضعُ به الرعايا، ويُخضعُ به الأعرابَ الذين صاروا مثله شيوخاً في قبائلهم يَستعملون الديَن تِعلّة ووسيلة في كلّ أمر وهم جميعاً زَنادقة منذ ألف ألف عام، يأتون الفواحشَ ويَدّعون القيمَ الفاضلة، ويَتّخذون من التطرّف في الدين مَذهباً. هنا الوهابيةُ الشنعاء. هنا السنّةُ التي صاغوها على مَقاسهم، وجَعلوها تَقليداً أعمى يَشدُّ إلى وراء ويُحيي السَلفَ الذي ما صاغ يوماً دستوراً للحياة التي تُوفّرُ للشعوب الحريّةَ والسعادةَ والرفاهَ والتقدّمَ.

ها هم يَضربون اليَمن اليومَ ويَستعملون الدينَ تِعلّةً. يَدّعونَ أنّهم القوّامون على الدين الذي كان في البدء. يَدّعونَ أنّهم وُرثاءُ الله ومُحمّد. يَدّعونَ أنّهم السُّنّة. يَدّعون أنّ اليَمنَ حوثيةٌ وشيعةٌ لا تَنفع. يَدّعون أنّ إيران في اليَمن تُهدّدُ أمنَهم وأمنَ العالم. يُخيفونَ بإيرانَ العربَ وبلادَ الغرب التي لا تكنُّ لإيرانَ الودَّ. يَدّعون أنّ الشيعةَ بدعةٌ والبدعةُ لا يَجبُ أنْ تَكونَ في اليَمن عند حُدودهم.

كذلك يبقى اليَمنُ بلا دولة. يَبقى فيه الجوعُ والعَراءُ والمَرضُ. يبقى ضَعيفاً في حاجة إلى أعراب الشمال. يَبقى تحت السيطرة. يبقى مادًّا اليَدَ يَستجدي، لا يَقضُّ مَضاجعَ جيرانَه ولا يُهدّدُ أمنَهم. والعالمُ يُشاهد المَسرحيّةَ التي اتّخذت الدينَ قناعاً، لا غَرضَ له إلاّ أنْ يَتناحرَ في هذا الدين المتناحرون ويَعيشوا خارجَ الزمن ولا يَتجذّروا في العصر. فَهنيئاً لأعراب الشمال بالنصر. وهَنيئاً لدينهم بِشدّ الناس في الزمن الصفر.

وحيد السعفي

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115