معرض «أنوميا» لبلحسن الكشو في المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس: تونس موطني من خانها في ذاكرة التاريخ يركن

يشارك الخالق في خلق الحياة من الطين، يتماهى معه في جمالية الابداع فمن انفاسه ينفث في الطين ويشكله اجمل الابداعات

يزينها بحبر الروح وألوان الحياة، يحول الطين الى لوحات خزفية تبهر ذات رسالة اجتماعية وسياسية وانسانية، من العدم يصنع الحياة ومن الجماد يشكل اجمل الاعمال اعمال يكتبها بكل الحب ويجمعها ليسميها «انوميا».
وهي تعبيرة عن حالة قلق مؤلمة نعيشها، فجميعنا نعرف الارق ونعايشه ونبحث عن منشود افضل وبين الم الموجود وامل المنشود تتفتت النفس البشرية ويرهق الفكر ويتعب العقل ووحده الفنان قادر على تحويل كل ذلك الارق الى ابداع و«انوميا» هي لحظات ولادة اعمال خزفية ممتعة لبلحسن الكشو.

انوميا الخزف يستنطق وجع المجموعة
العنوان مدخل العمل، العنوان عتبة كل عمل فني وفي اعماله الفنية يكون العنوان محورا اساسيا فهو نتيجة ولادة فكرة صعبة ونتيجة وقت طويل من العمل، وللعنوان ريادته في اعمال الفنان بلحسن الكشو.
منذ العنوان يحملك الفنان الى رحلة في عالم الموجود وتعيش معه لحظات الارق والقلق التي يمر بها التونسي في حياته اليومية، منذ المدخل تجدك في مواجهة لحظات من الوجيعة ابدع في نحتها وكتابتها وتزيينها على الطين ليحول الارهاصات حلما لذيذا خزفي الهوي تشكيلي الحضور نحتي الانجاز والكتابة.
بأنامله وعشقه للخزف يحول الطين ابداعا.. اسم المعرض «أنوميا» وهي حالة تشكلت أطوارها اطيانا وألوانا، هي رؤية فنية نقدية ترصد قضايا الحياة وتعكس حالة من عدم الاستقرار والقلق والاضطراب تضرب عمق المجتمع، تخلخل توازنه وتفتك بالمعايير والقيم، سنوات الارق يحاصرني يغازلني حتى تمّلكني فكانت المواجهة، فما نعيشه بالأمس واليوم وغدا يحرك سواكن المسكون فنّا» كما يقول بلحسن الكشو.

جولة مع 33لوحة خزفية معروضة، ثلاثة وثلاثين حكاية وقصة انطلقت من «الانوميا» من القلق الذي يعيشه الفنان ليبدع ويحوله إلى ابداع لقاء مع الابطال التائهين، المترصدين المهاجرين، شخوص من وحي الخيال سكنت فكره وخياله فكتبها لتصبح امام الزائر كما الحقيقة يلمسها ويحاول فهم أسرارها عيون مطموسة ثاقبة وافواه صامتة صارخة وأياد مبتورة ممدودة، متناقضات كثيرة بني عليها العمل، متناقضات تتماهى مع الواقع الذي نعيشه فنحن نعيش ارقا حد السعادة وألما حدّ الامل، فالشخوص التي تحمل انفصاما وتعيش حالة ازمة نفسية ومتضادات هي بيننا اليوم نعايشها ونحاكيها وبذكاء مطلق التقط بلحسن الكشو كل تلك التفاصيل وحولها الى عمل فني ولد من الطين ومن العقول المدركة الشاردة ولدت قصة «انوميا» .

العمل الفني عمل نقدي بامتياز، المادة الاساسية كانت الطين، ومعها نقل الفنان ما نعيشه من حالة ارتباك يومية، ارتباك وخوف جسده الفنان في الشخوص التي كتبها في الاعمال المعروضة، اشخاص تبدو واضحة المعالم والتفاصيل حينا وضبابية احيانا أخرى شخوص بألوان اولية حينا وثانوية احيانا، الوان متجانسة حينا ومتنافرة مرات كانها الواقع بكل تقلّباته، في «انوميا» نقد كثير للواقع، للمجتمع للسياسة، فالكراسي الموجودة في اكثر من عمل نجدها في حالة صراع مع الأشخاص هنا كان بالفنان يضعك مباشرة دون مقدمات امام صراع الكراسي و المصالح التي نكون السبب فيها.

وعن المعرض يحدثنا الفنان « العمل انجزته في سنوات، رحلة القلق ومعاينة للوضع العام للبلاد، قلق عشته وعايشته قلق حاصرني وغازلني وسكنني فولد في المعرض، قلق كبر تدريجيا إلى حد أن حاصر الفكر والفكرة ليتجسد في «انوميا».
«وبعد الجولة فبين القصص والحكايا المعروضة ستخرج حاملا قلقا بين ضلوعك تبحث عن القليل من الهواء لتتنفس الصعداء بعد معايشة لحظات من الوجع ليكون «أنوميا» هو ذلك الإنسان الحائر بين المنشود والموجود، تجده غالبا مطموس الجزئيات مبتور الأيدي وتجده في بعض الأحيان متحررا مؤسسا ومتجانسا مثلك تماما.

بين الدال والمدلول: صراع الفكرة والتجسيد
ممتعة هي اللحظات التجوال بين الحكايات التي جسدتها انامل الفنان بلحسن الكشو، عاند الواقع وعاكس الموجود ليبعث في الطين الحياة ويشكل منه الياذة للنقد ومطية لوضع الاصابع على مشاكل التونسي وارهاصات فكره، ثلاثة وثلاثون عملا نقديا عايش معها الزائر صراع الدال والمدلول والمعركة الازلية للفنان قبل الولادة النهائية للفكرة.
فنان ملم بجل الفنون تقريبا، عاشق للطين والسيراميك ومنه يصنع حكاياه ويعاكس الموجود ويتماهى معه احيانا، فنان خبر الخزف بكل صعوباته فالتعامل مع الخزف ليس بسهل، وعلى الخزاف ان تتوفر فيه معطيات كثيرة منها اتقانه للمادة واللون اي ان يكون فنانا تشكيليا ووجب ان يتمكن من المجسّمات والأحجام اي يتقن فن النحت وعليه ايضا ان يتقن التحكم في الفراغات والمشاهد اي»ديزاينور» ومن ثمة يكون التعامل مع السيراميك فالخزاف هنا ملم بكل هذه الفنون قادر على التحكم في المادة والتقنية وله حرية التعامل معها في مرحلة ثانية وجميع هذه التفاصيل توفرت في الفنان بلحسن الكشو فكان معرضه مختلفا.

ثلاثة وثلاثون عملا، ثلاثة وثلاثون قصة وحكاية، شخوص نلامسها ربما هي فقط في خياله فهاهي «نبض» تحملك الى دقات القلب وشخصان على اللوحة ربما يعكسان لحظات ولادة الفكرة، أو وجيعة الانفصال كما تحادثك «بر-لمان» وما التمطيط في الاسم الا دليل على وجع المواطن امام شخوص البرلمان،او ربما تجدك امام ازهار نراها مرسومة بشتى الالوان كأنها تعبيرة عن الحلم او هي مد وجزر بين السلبي والإيجابي بين الموجود والمنشود مثل «عبير الامل» او «نحن لا نستجدي» فنحن نطالب بالحقوق، نطالب بالوطن ولا نستجديه او نستجدي كرسي السياسيين لنحيا.

في «انوميا» يكون الموعد مع صراع الدال والمدلول، فاسم اللوحة جزء من الفكرة او هو تعبيرة عنها، فاسم العمل جزء من روح الفنان مهم جدا يتشكل مع الفكرة ويكبر معها إلى حد أن تصبح لوحة قائمة الذّات، فالاسم أحيانا «هو المحرك فشرارات الفكرة الموجودة في المخيلة تكبر تدريجيا إلى حد التجسيد كذلك العنوان يمكن أن يولد اول الفكرة او منتصفها وأحيانا بعد تشكلها، يولد من الفكرة ليس من الفراغ» كما يقول بلحسن الكشو.

فللعنوان حكاية، وللعبة الاسماء دلالتها، ففعل انتظر مثلا، يحضر في المعرض في اكثر من عمل وبمدلولات مختلفة، فها انت امام « ان - تظار» وللتمطيط دلالة على الوجع وفعل الانتظار والوقت الطويل، اما «انت - ضار» فهنا يتغير المعنى من فعل الاستجداء الى معنى الضرر ووصف الاخر بأنه ضار والآخر هنا هو الكرسي والسياسي وصراعنا مع الكرسي ناسين الوطن وحكاياه، نفس الترتيب يصبح «ارق الانتظار» اي وجيعة البقاء الطويل في انتظار حدث ما ربما لن يأتي شان انتظارنا لأهداف الربيع العربي الذي اصبح «ربيع مؤكسد» ومرات يكون المعنى واضحا «انتظار» دون تلاعب بالملول او بحث عن التاويل يضعك الفنان في مواجهة الفكرة لتعايشها وتتصادم معها وتشعر انك في «طاحونة» تدور معها كل الافكار وتتداخل فيه الدوال الجمالية و والنقدية.

الخزاف الشاعر والشاعر المتلقي
الشعر جزء اساسي في المعرض، ركيزة للنجاح فالفنان خاطب الشعر وحلل الكلمات وتماهى مع اصحابها وحاورهم روحيا ليبدع، في معرض «انوميا» للشعر حضوره، فهاهو منور صمادح يتردد صداه في الرواق وهو يصرخ «فتكلم، وتالّم، ولتمت في الكلمات» قصيد اثار حفيظة بلحسن الكشو فغازلها بالخزف وصنع من الكلمات تحفة فنية خزفية واول القصيد وحاكى الشاعر وقال له:
تكلم فقليل الكلام عبر
وأهجر الصمت الى الأزل
تالّم بابتسامة تفتت الحجر
تالّم لعل في القدر امل
ولتمت فلا مفرّ من القدر
ولتمت ليحيا فنّك في زحل
فالكلمات بلا معنى خور
والكلمات بلا افعال عول»

فالفنان هنا بات يلهو بالكلمات واختلط النحتي بالتصويري وتماهى الخزفي مع الشعري «فلا تقل انا شاعر بل ومعه بتّ الهو بالكلمات» على حد تعبيره، من قصيد «كلمات» صنع تحفة خزفية كان لكل كلمة حيزها الفن في مستطيلات ومتوازنات ملأت الفراغ الشكي واللوني.
من الشعر ايضا ولدت تحفة فنية أخرى تحفة اقتبست من قصيد اولاد احمد، وفي جزءين منفصلين يتوسطهما كرسي والوان كتب بالخزف «اذا كنت شعبا عظيما» «فصوت في اللحظة الحاسمة» وعنوان اللوحة «اذا كنت» صنعتها أنامل فنان مولع بحياة الطين وبهواجس الوطن عايش القصيد وصنع الخزف وتماهى معه وقال:

«لا تنصت اصلا لمن هو لا يسمع
لا تكن ذليلا كي لا تطحن
عش شامخا بأنفة ولا تتوجع
فتونس موطني فهلاّ تسمع
وتونس متحفي فهلاّ تتكون
فمن خانها فهو من طينة لا تفخر
ومن خانها في ذاكرة التاريخ يركن»

وللزائر ان يستمتع بالتطابق بين المادة الخزفية والمعاني التي يتضمنها النص الشعري اولا ورسالة العمل الخزفي ثانيا، فبقدرته على استنطاق الحرف شكّل بلحسن الكشو اجمل الاعمال الناقدة والمشاكسة للانا وللانانية وللجمع فهو فنان يصنع من الطين الحياة ويلاعبه ويكتب معه قصة الالم التي تسكنه وبقدرته يحولها املا ينثره في الالوان في اعماله الفنية فالالم المرسوم هو نظرة تساؤلية وطرح للفكرة بطريقة تدفعك للسؤال ثم التغيير، اعمال لن تقف معها عند الشكل الظاهر بل تدخل الى خباياها وتكشف ما تخفيه من رسائل انفتاح على واقع يكون افضل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115