مدير عام مسرح الأوبرا في مدينة الثقافة يوسف الأشخم لـ«المغرب»: الثقافة ليست كتابا وانغلاقا ... بل انخراط في دوران عجلة الاقتصاد

بعد 20 سنة من الانتظار والتعثر، أصبحت مدينة الثقافة جسدا نابضا بالحياة ومنبرا ناطقا باسم الفنون ونافذة مشرعة

على تجليات الإبداع والجمال ... صارت هذه المدينة القبلة والوجهة ووجه العاصمة الأجمل. وما بين جمهور بالآلاف يطرق أبواب المدينة باستمرار وزخم أنشطة سريعة التواتر تبرز من هناك وهنا تساؤلات وتخوفات عن مدى بقاء المدينة قلعة للفنون والثقافة وسط تسمر أنظار الكل على مقرها الفاخر وفضاءاتها ذات الرفاهية العالية. وفي هذا السياق كان لـ «المغرب» حوار مع مدير عام مسرح الأوبرا يوسف الأشخم والذي يضطلع بمسؤولية كبيرة في تسيير مدينة الثقافة من مسائل الحراسة والنظافة والتنسيق والتصرف في الفضاءات...

• بعد مرور أشهر قليلة على افتتاح مدينة الثقافة في 21 مارس 2018 كيف تقيم وضعية المدينة وموضعها في الحراك الثقافي التونسي؟
لقد خامر الكثيرين التخوف من مستقبل مدينة الثقافة وتوجسوا من مردوديتها ما بعد افتتاحها رسميا وبرزت تساؤلات في الخفاء والعلن عن مدى قدرة المدينة على وضع برمجة متواصلة تختلف عن الموجود وتستقطب الجمهور في كل الأوقات... فكانت المفاجأة السارة التي تجلت منذ يوم افتتاح مدينة الثقافة حيث كان الإقبال الكبير والمدهش وسادت بهجة لا نظير لها أرجاء المدينة. بعد ذلك كان كل ما يبرمج في مدينة الثقافة يستقطب الجمهور العريض وذلك يعود إلى رغبة الناس في زيارة مدينة الثقافة لاكتشاف هذه التحفة الفنية من الداخل وأيضا إلى الجودة في اختيار العروض التي تحتوي على جمالية لا يختلف فيها اثنان كالرائحة الطيبة.
وبالرغم من بعض الهفوات أحيانا فإن جمهور مدينة الثقافة ظل وفيا لمدينته مقبلا عليها ومحبا لقاعاتها ... مما يمنحنا عزيمة وإصرارا على إكمال المشوار والاهتداء إلى الطريق الصحيح.

• في كل مرّة تفتح فيها مدينة الثقافة أبوابها لغير الثقافة إلا وتنهمر الانتقادات وتنهال التنديدات على غرار احتضان مائوية جمعية الترجي التونسي... فهل أن سلطة المال تبيح تسويغ الفضاءات الثقافية لغير أهلها؟
يهمنّي التأكيد للجميع أن أبواب مدينة الثقافة موصدة في وجه كل ما هو سياسي وإيديولوجي... وكلّ ما لا يدخل في دائرة الثقافي والعلمي والفكري غير مرّحب به في مدينة الثقافة. صحيح بأن المقر الفخم والموقع الاستراتيجي للمدينة يستقطب الاهتمام والأنظار حتى أننا تفاجأنا بالطلب الكبير وغير المتوقع لكراء فضاءات مدينة الثقافة ولو استجبنا لهذه الطلبات فحتما ستكون المدينة على وجه الكراء لمدة 365 يوما دون أن يبقى شيء من فضاءاتها وقاعاتها للعروض الفنية.

نحن ننظر في مطالب حجز فضاءات المدينة وفقا لرؤية تقطع مع الانغلاق والتقوقع وتتبنّى المفهوم الواسع والمتعدد للثقافة بما هو تقاطع مع السياسي والاجتماعي والرياضي والاقتصادي... وإلا فإننا ستكون خارج التحولات العالمية من حولها التي فرضت على الفعل الثقافي التجديد والانفتاح ومواكبة العصر. لقد أصبح المنتوج الفني اليوم مجبرا على الخضوع ولو بصفة جزئية إلى معادلة العرض والطلب. إن الفنان الذكي والجريء هو من يقيس مدى الطلب على ما يقدّمه من إبداع، وفي هذا السياق نلاحظ أن فيلمي «دشرة» للمخرج عبد الحميد بوشناق و«بورتو فارينا» للمخرج إبراهيم اللطيف قد حققا مؤخرا أرقاما قياسية في مداخيل بيع التذاكر حتى أن فيلم «دشرة» قد نجح في الأسابيع الأولى من انطلاق عرضه في القاعات التونسية في استرداد كلفة الفيلم كاملة، وهو ما كان أمرا مستحيلا في تونس. طبعا هنا لا يجب نكران مجهود الدولة في دعم الفعل الثقافي ودور مدينة الثقافة التي وفرت قاعات مريحة وتستجيب لمواصفات العرض وبها من الرفاهية ما يستقطب الجمهور الواسع.

أما بالنسبة لحفل مائوية جمعية الترجي التونسي، فقد تناقشنا طويلا في طلب كراء مسرح الأوبرا لجمعية رياضية ولكننا بالعودة إلى تاريخ التأسيس وظروف النشأة وانتماء بعض مؤسسيها ورؤسائها إلى القطاع الثقافي وجدنا خيطا ما يربط ما بين الكرة والثقافة. إن استنكار دخول الترجي إلى مدينة الثقافة هو عبارة عن إقصاء ثقافة كرة القدم في تركيبة شخصية شريحة كبيرة من التونسيين.فلماذا إذن نسجن مدينة الثقافة في حدود ضيقة والحال أن الثقافة تتجسد في كل تفاصيل الحياة وليست مجرد كتاب وانغلاق !؟

مؤخرا احتضنت مدينة الثقافة المعرض الاقتصادي لريادة الأعمال باعتبار أن تثمين قيمة العمل هي في صلب الثقافة الحية التي لا تعتمد فقط على دعم الدولة بل تبحث لها عن مصادر تمويل وسبل انخراط في الدورة الاقتصادية كقاطرة للتنمية ولا عبئا عليها.

• هل من فكرة عن ميزانية مدينة الثقافة... وماذا عن مصير الفضاءات التجارية التي يمكن أن تدعم الموارد المالية للمدينة لكنها لم تدخل بعد طور الاستغلال؟
10 مليون دينار هي ميزانية مدينة الثقافة لسنة 2019 على اعتبار أنه بإمكاننا تحقيق بعض المداخيل الأخرى ليكون المبلغ الجملي للميزانية في حدود 13 مليون دينار. ولابد من الإشارة إلى أن جانبا كبيرا من الميزانية المرصودة يتم إنفاقه كأجور للموظفين والأعوان وأشغال الصيانة حتى تحافظ المدينة على تجهيزاتها وفضاءاتها في أبهى حلة إلى جانب مصاريف الحراسة والنظافة والاعتناء بالمناطق الخضراء...

وبخصوص الفضاءات التجارية التي تمتد على مساحة 6 آلاف متر مربع فنحن بصدد العمل على دخول هذه المساحات من مطاعم ومقاه حيز الاستغلال بعد ضبط كراس شروط في الغرض. ولاشك أن تسويغ هذه المحلات سيحقق عائدات طائلة لمدينة الثقافة باعتبار ربحية هذا المشروع الاقتصادي الذي سيتمتع بموقع ممتاز واستراتيجي للنشاط إلى جانب عدد مهمّ من الحرفاء حيث تستقطب مدينة الثقافة كحدّ أدنى حوالي 6 آلاف مواطن في اليوم الواحد وحوالي 50 ألف مواطنا يوميا بمناسبة احتضان المدينة للتظاهرات الكبرى.

• تتعدّد أقطاب مدينة الثقافة وتتنوّع فنون اهتمامها... ولكنها لا تعمل بالنسق نفسه وتتفاوت درجات نشاطها، هل من تفسير واضح؟
ممّا لا شك فيه أن الاجتهاد والمثابرة في العمل والسعي لتقديم الأفضل ميزة مشتركة بين كل الأقطاب الفنية لمدينة الثقافة ولكن تختلف وتيرة أنشطتها أو عروضها حسب طبيعة المجال الذي تعمل فيه. وعلى سبيل الذكر لا الحصر يتطلب إنتاج عرض موسيقي وقتا أقل من إعداد عرض مسرحي... ولكن في النهاية لا يختلف اثنان في توفر معيار الجودة في كل ما تقدمه مدينة الثقافة من إنتاجات فنية وثقافية.

• حتى لا تكون بقية الولايات مجرد ضيفة في أيام الجهات بمدينة الثقافة، هل من مشروع حقيقي لانفتاح المركز على اللامركزية الثقافية؟
دائما وأبدا تسجل الجهات حضورا بارزا في برمجة مدينة الثقافة في مختلف الفنون والتظاهرات... ولدينا فعلا مشروع مهم لمزيد دعم اللامركزية في شراكة مع مراكز الفنون الدرامية والركحية التي سيزداد عددها لتشمل كافة الولايات. وتتمثل تفاصيل هذه المبادرة في الاحتفاء بالإنتاجات السنوية لهذه المراكز بعرضها في مدينة الثقافة وتنظيم مسابقة ضخمة لتتويج أفضل عمل مسرحي تنتجه مراكز الفنون الدرامية والركحية في الجهات بجائزة مرموقة تحفز على مزيد الإبداع والتميز.

• بعد افتتاحها لا تزال مدينة الثقافة توصف بأنها بناية جوفاء في عمقها ومفرغة من قيمتها وجدواها... كيف ترى هذه المواقف والانطباعات؟
اسمحوا لي أن أستعير في هذا السياق مثال المرأة التي تنجب مولودا حديث الولادة فإذا بالبعض يتساءل لماذا لم يولد ناطقا منذ البداية !؟ طبعا مدينة الثقافة حديثة الافتتاح والنشاط تحقق اليوم نجاحا بارزا وصدى لافتا تترجمه العروض أمام شبابيك مغلقة والطلب المتزايد للعرض في قاعاتها... وإن يتسرع حتى أهل الثقافة من قامات وهامات كبيرة في الفن في الحكم السلبي على أداء مدينة الثقافة فإني أكتفي بالقول هنا إن التسرع ليس من الحكمة ولا يجب أن يصدر عن الحكماء !

• ما مدى إشعاع مدينة الثقافة داخليا وخارجيا، هل من مشاريع توأمة أو شراكات أو تعاون دولي؟
بطبيعة الحال مدينة الثقافة كما يدل عليها اسمها هي مدينة يجب أن يسكنها المواطنون وتستقبل الضيوف والزائرين ويكون فيها سوق ولقاء وتفاعل ... وهو ما تحقق إلى حد الآن. وقد أصبحت مثلا المدينة وجهة للرحلات المدرسية لاكتشاف هذا المشروع الثقافي الذي لا نظير له... وكما تنفتح المدينة على محيطها الداخلي والخارجي فإنها تمد يدها كلما سنحت الفرصة للتعاون والتحاور مع الثقافات الأخرى . وفي هذا السياق أمضى المركز الوطني للسينما والصورة صلب المدينة اتفاقيات شراكة مع عدد من الدول العربية والأجنبية. كما انخرط مسرح الأوبرا في شبكة لمسارح الأوبرا الأوربية التي تضم 44 دولة. ونحن نتفتح بصفة متواصلة ومتزايدة للتعاون الثقافي من السفارات الأجنبية في بلادنا... ولاشك أن مستقبل مدينة الثقافة سيكون مشرقا ومبهرا ومفاجئا للجميع بأن الثقافة قادرة على تغيير وجه البلاد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115