في بعض شؤون الثقافة: الهَربَة... أو الدّينُ أنشودةٌ للحَياة الدّنيا

تَعود عُروضُ مَسرحية «الهربة» * من حين إلى آخر، تَملأ الفضاءَ فرحاً، فيَضحك المشاهدُ، ويهتفُ دون حَرج.

تعود في فَضائها الذي شاهد ميلادَها وميلادَ شَخصياتِها. شَخصيّاتٌ لاهيةٌ عابثةٌ، لا تَعرفُ الحُدودَ، تَماماً كالأطفال، تَقولُ كُلَّ شَيء، وتَفعلُ كلّ شيء أو تكاد، وتَلتقي فيها الأجساد. شَخصيّاتٌ لا تعرفُ المَحْظورَ. تَتعرّى كما تتعرّى اللذّةُ في الجسد الذي لا يَعرفُ الكبتَ. تَتعرّى كما يَتعرّى الدينُ، إذا ما الدين كان فِطرةً. فتشعرُ بالدين أنشودةً للحياة الدنيا. وتَشعرُ بالمسرحية خَفيفةً لا تُقلقُ. وتَشعُر بالشخصيّات تَلعبُ على الركح ذَواتِها، لا أدواراً تَتقمّصُها. وتشعرُ أنّ المسرحَ يُمكن أنْ يكون مُتعةً، لا همًّا وبُؤساً وتَجريداً يَتشكّلُ تِعلّةً يُتَستَّرُ بها على انْحباسِ الفنّ وضِيقِ النفَس في الخَلق.
وهذا النصّ في المسرحية والدين، جَعلناه نَصًّا في المُتعة، لا غايةَ له غيرُ التعبير عن ذلك، بَعيداً عن التنظير للمسرح والنقد، بَعيداً عن الأخلاق التي تَحبسُ الجَسدَ في الكساء والثوب، بَعيداً عن الخَوف من التعرّض للدين بالتهكّم والسبّ، بَعيداً عن السلفيةّ والإرهاب وهلمّ جرّا. هذا النصّ في المُتعَة. والمُتعةُ شعورٌ وتَعبيرةٌ وخلودٌ وفلسفةٌ في الحياة الدنيا. هذا النصُّ قراءةٌ في الدين والمرأة تتّخذُ المَسرحيةَ مُنْطلَقاً والفنَّ تِعلّةً.

الهَربة قصّةُ رَجل فَرَّ بدينه إلى امْرأةٍ. ولا غَرابةَ في ذلك. فالدينُ، كثيراً ما اتّخذَ المرأةَ مَلاذاً ومَهرباً. ويُمكنُ أنْ نقولَ ولا حَرَجَ إنّ الدّينَ لو حَرمْتَه المرأةَ لانتفى ولم يَعدْ ديناً. فهو لا يتطوّرُ إلاّ في حَضرة المرأة. وهو لا يروي أحْسنَ القَصصِ إلاّ في المرأة. وقد جَعلت الأديانُ خَلقَ المرأة غايةً بها يَكتملُ الخَلقُ. فحَوّاءُ اكتمل بها الخلقُ وتواصلت بشأنها القصّة وتَطوّرت. ولو لم تَظهر في القصّة حَوّاء لظلّ آدم وَحدَه في الجنّة، لا يَشقى فيها ولا يَجوعُ ولا يَعرى. ولظلّ منبوذاً عند الملائكة وإبليسَ، يُعَيّرونَه بأصله الوضيع، ويَفخَرون عليه ويَزهون لأنّهم من نار أو من نور وهو من طين. ولظلّ جاهلاً بالحياة الدنيا. ولتوقّفت القصّة ولم تتطوّر.

لمّا ظَهرت حَوّاء تَغيٍّر كلّ شيء. أكلت من الشجرة وأكل منها آدم. واكْتشفَ العَوْرةَ واكْتشفتْها حوّاء. فَضّلا النزول إلى الأرض يتمتّعان بالجسد والنكاح والحُبّ واللذّة على البقاء في الجَنّة حيثُ اللهُ والملائكةُ والجِنّةُ. كان اللهُ على العرش وكانوا يَطوفونَ بالعرش لا يتوقّفون. والحبُّ غائبٌ. وقد اختار الدينُ في هذه القصّة الجَسدَ والنكاحَ والحُبَّ واللذّةَ على البقاء في حَضرة الله والملائكة والجِنّة حَيثُ لا يَحدُثُ من هذا القبيل شَيءٌ. لاذ آدمُ بحوّاء، يتمتّعان بحُرّية بما كان مُحرّماً عَليهما في الجَنّة.

وقد لاذ في مَسرحية الهَربَة ذلك الرجلُ بالمرأة، يَتمتّع بالجسد والنكاح والحُبّ واللذّة بعدما كان أزرقَ، كما سَمّته المرأة. والأزرقُ في اللّغة هو الأعمى الذي لا يُبصر الأشياءَ ولا دُربةَ له ولا تَعلّم. فتَعلّمَ مع المرأة السرَّ، سرَّ الحياة الدنيا، مثلما تَعلّم من قبلُ آدم. كان الأزرق في المسرحيّة تَبعاً لامرأة، تَماماً مثلما كان آدم من قَبلُ تَبعاً لحوّاء. وتَشعرُ بآدمَ في قصّة الخلق الأولى يقول: ما أحلى أنْ تكون تَبعاً لحَوّاء! وتَشعرُ بالأزرق في المسرحية يقول: ما أحلى أنْ تكون تَبعاً لامرأة! فامْرأةُ الهَربَة مثل حَوّاء، عالمةٌ تَقومُ على المَعرفة بكلّ خبرة.

هُنا يلتقي الدينُ والفنُّ. كانا يُعالجان مَسائلَ الحياة الدنيا، ويَرسُمان للإنسان ثقافتَه التي يكون بها إنساناً، فالتقَيا منْ حيثُ لا يَشعران. وثقافةُ الإنسان كانت مُذْ كان الزمانُ مُتعةً وجَمالا، تقوم عليها المَرأةُ لأنّها أصلُ الثقافة والإبداع والفنّ والدّين. وهي جميعاً تتغنّى بالمرأة، بما في ذلك الدينُ، إذا ما الدينُ لمْ يُشوّهْهُ الفقهُ ونوازلُ أشباه العلماء في الدين الذين يُعانونَ العجزَ والكبتَ.

دَخلَ الأزرق يَحملُ تَحتَ قَميصه ربَّه، تَماماً كما كان المتصوّف يَحملُ تحت الجبّة ربَّه. دَخلَ فيه رَبُّه بالكلّية. دَخل فيه وصار هو. فتَمتّعَ باللذّة العارمة. وتَمتّع بالجسد. وتَمتّع بالحبّ. فامرأةُ المسرحيّة لم تَكن جَسداً وَحدَه. كانت كَلمةً راودتْه عنْ نفسه بفنّ. كانت فَكَهاً أصاب حَياتَه فتَبسّمتْ له حياتُه وقد أصابت مِنْ حُبور المرأة حُبوراً، ومنْ سَعادتها سَعادةً. كانت مُداعبةً في لُطفٍ. كانت ذاتَ حنان لا يَفنى. وتمتّعت مِثلَه بالجسد واللذّة والحبّ. واعترفت أنّ مَرّتَه الأولى لم تكن سَيّئة. لم تَكن امرأةُ المسرحيّة جَسداً وَحدَه. لو كانت كذلك لفضّلت على الأزرق الزبونَ الذي دَفعتْه، بفضل ما أتتْ وقالتْ، إلى مغادرة الوَكْر، لتتفرّدَ بالأزرق، ففازت بالأزرق، وفازت برَبّه، وفاز بها الأزرق، وفاز بها ربُّه.

هنا تَشعر بالحُبّ يُخيّمُ على الوَكْر. وخارجَ الوَكْر كان الشارعُ في حركة لا تَهدأ. وكان البوليس يَفرضُ حُكمَه. وكان العُنْف قد اتّخذ من الدين تِعلّةً وانتصبَ مثل البوليس يَفرضُ حُكمَه. وتشعرُ بالأمن في الوَكْر. وتَشعُر بالدفء. وتَشعرُ بالدّين أنشودةً للحياة الدنيا. فالحورُ والغلمانُ، والأنهارُ التي تجري ماءً عَذباً ولَبناً وخمرةً وعَسلاً مُصفّى، والفاكهةُ والغلّة، واللذّةُ والمُتْعة، هي الدنيا لا الآخرة. انظُرْ تَرَ. ها كلّ شيء موجودٌ هنا، قريباً منك، فلِم تَنظرُ هُنالك، إلى الآخرة، وتَنتظرُ السفرَ، وقد تُفجّرُ نَفسكَ لتُعجّلَ بالسفر طَمعاً في الآخرة، ولا آخرة. الدّين أنشودةٌ للحياة الدنيا، فلا تَغفل. ولم يَغفل الأزرق عن ذلك. بدّل دينَه الذي تشكّل سَلفيّةً صارخةً وعُنفاً وقَميصاً ولحية، واختار الدينَ الذي يَقومُ أنشودةً للحياة الدنيا. فاستقرّ في الوكر، يَشربُ من القارورة ما تَأتّى، ويَنعمُ بالجسد، ويَنسى في الحضن الدافئ همَّه. وتشعُر بربّه فيه سَعيداً وقد التقاه في العشق، عشق المرأة وعشق الربّ وعشق المعرفة العالمة التي لا تَفنى.

---------------
* مسرحية الهربة، إخراج غازي الزغباني عن نصّ بالفرنسية لحسن الميلي، تمثيل نادية بوستة ومحمد حسين قريع وغازي الزغباني، فضاء لارتيستو، تونس، عُرضت يوميْ 1و2 فيفري 2019، وتُعرضُ يوم 17 فيفري 2019.

وحيد السعفي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115