كان اسْمُه عبدَ الله، وكان الناسُ يُنادونه اخْتصاراً عَبْد. فَكَرهَ ذلك وجَمع المَشايخَ والمُفتين، وطَلبَ إليهم أنْ يُفتوه في حَذفِ لَفظِ عَبْد من اسْمه. فأصْدَرُوا فتوى في الغَرض تقضي بحَذفِ لَفظِ عَبد من اسْمه والاقتصار فيه على لَفظِ الله. وأصْدرَ أمْرَهُ العَليّ إلى أهل المَملكة بأنْ يَحترموا فتوى المَشايخ والمُفتين ويُنادوه باسْمه الجَديد. فكانوا يُنادونه كذلك. وكان يُسرُّ لذلك. وكان يَسمعُ اسمَه عند كُلّ أذان للصّلاة. ويَسمعُه في شَهادة مَنْ تَشهّدَ. ويَسمعُه عند تَرتيل القرآن. ويَسمعُه عند كُلّ قَسَم بالله. فظَنَّ أنّ الصّلاةَ تُقامُ باسْمه، وأنّ الشهادةَ له، وأنّ القسمَ به. ذهب في ظنّه أنّه الله. واجتمع من حوله المنافقون يُسبّحون باسْمِه. وانتفخَ كإطار من مَطّاط. ولم يَنفشَّ إلاّ ساعةَ جاءته عَجوزٌ تَسألُه: يا الله، ما معنى الله؟ فاحْتار في أمْره، ولم يَعرفْ معنى اسْمِه، وبان جَهلُه بثقافة الناس، وقامت المَملكة تُسقطُ مَنْ سَطا على الاسم الذي كان ثقافَتَها، وتُسقطُ الجَهلَة.
وقد سَمعنا هذه الأيّامَ أنّ حزباً سَطا على الاسم الذي تشكّل ثَقافةً في الناس. فبدا لنا أمرُه كأمر ذلك الملك، ووجّهنا إليه الخِطابَ نَسأله سُؤالَ تلك العجوزُ:
أنا لا أدري مَنْ أنتَ يا حِزبُ. ولا أعرفُ مَنْ وَراءك. ولا أفقهُ في الأحزاب. ولا عِلمَ لي بالسياسة. ولكنّي أعرفُ الأسماءَ. وأعرفُ الثقافةَ. فبدا لي أنّك جاهلٌ بالأسماء. وبدا لي أنّك جاهلٌ بالثقافة. فسَطوْتَ على اسْمِنا واتّخذتَه لك اسْماً. وتباهيتَ علينا بالاسم الجديد، وهو اسْمُنا. ألا تَعْلَمْ أنّ تحيا تونس اسمُنا وشعارُنا وثقافتُنا، على اختلاف أهوائنا وانتماءاتنا ومشاعرنا؟ فنَحنُ كُنّا مذُ كان الزمن، عَرباً وبَربراً ومُسلمين ويَهوداً ونَصارى، مُؤمنين ومُلحدين وكُفّاراً، حُمراً وبيضاً وسُمراً وسُوداً، لا يجمعُ بيننا جامعٌ غيرُ تحيا تونس التي شكّلت اسْمَنا وشعارَنا وثَقافتَنا. تشكّلت فينا عبارةً عَجيبةً، نُسَرُّ لها أيّما سُرور، ونُخيفُ بها الظالمَ والجبّارَ. فلماذا سَطوْتَ عليْنا تَسْلِبُنا اسْمَنا وشعارَنا وثَقافتَنا؟
لماذا اتّخذتَ تحيا تونس اسْماً؟ أضاقتْ بك الأسماءُ أم لغاية في نَفسكَ، والنفسُ أمّارةٌ بالسوء؟ أتُخاتِلُنا يا حِزبُ؟ أَوَتظنُّ أنّ هُتافَنا بتونس سَينقلبُ يوماً هُتافاً بك؟ أتُغالِبنا على ثَقافتِنا، ولا ثَقافةَ لك؟ أتظُنُّنا اسْماً على الرّملِ انْكَتَبَ، تَمّحِيهِ الرّيحُ إذا ما هَبّت الريحُ؟ لا. ستظلُّ تُونسُ لنا. وسَنشدو لها نَشيدَنا الخالدَ: تحيا تونس. وسَتسقُطُ الأحزابُ إذا ما انْبنَت الأحزابُ على شَفا حُفرةٍ عند الوادي، لا تدري ما الوادي، والوادي يَغضبُ ويثأر مِنَ المُتطفّل على الوادي.
تَعالَ أعلّمُك الأسماءَ كما تَعلّم آدمُ الأسماءَ فسَمّى تُونسَ تُونسَ، وسَمّانا عبادَها. أتَدري لماذا؟ لأنّه كان يَعلم بفَضْل ما تَعلّم من أسْماء، أنّا لها وهي لنا. وأنّك تُريدُ الاستحواذَ عَلينا وعَليها، فسمّاك مُستحوذاً على الأسْماء.
تَعالَ أعلّمُك الأسماءَ كما تَعلّمتِ العَربُ الأسماء. كان العَربيَ إذا ما بُشّر بالوَلد خَرجَ قاصداً الخَلاء، يُصادفُ ما شاء اللهُ له أنْ يُصادفَ. فإنْ صادفَ ثَعلباً سَمّى وليدَه ثَعلبَة، وإن صادفَ لَيثاً سمّاه لَيثاً، وإنْ صادفَ غُراباً سمّاه غُراباً. وكان إذا ما بُشّر بالفتاة خَرجَ قاصداً الخَلاء، يُصادفُ ما شاء اللهُ له أنْ يُصادفَ. فإنْ صادفَ مَهاً سمّى وليدتَه مَهَا، وإنْ صادف غزالاً سمّاها الغزالةَ، وإنْ صادف زَهرةً أو كوكباً سمّاها الزهراء. وهلمّ جرّا. فلماذا لم تَجرِ في الطريق، تُصادفُ فيها ما شاء اللهُ أنْ تُصادف، فتتسمّى بما صادفتَ، إنْ مُظاهرةً أو عَجلات تَحترق أو حُفراً في الطريق؟ وقد تُصادفُ شَجرةً أو أقحواناً، فتتسمّى بالشجرة أو بالأقحوان. وقد تُصادفُ وَجهاً جَميلاً، فتتسمّى بالوَجهِ الجَميلِ وتُراودنا به عن أنفُسنا.
تَعالَ أُعَلّمك الثقافةَ كما تَعلّم آدمُ الثقافةَ. كان في الجنّة يَسعَى، لا يَشقى فيها ولا يعرى. كان كلّ شيء جاهزاً ولم يكن فاعلاً. أَخذتْه يَوماً سِنةٌ من نومٍ. استيقظ وَجدَ جَنبهُ حوّاء. سَقتْه خَمراً. علّمتُه الأكلَ من الشجرة. علّمتُه أنْ يقول لا. عصى ربَّه وأحبَّ حوّاء. نزلا يُعمّران الأرض ويَهتفان تحيا تونس الخضراء. تَعلّمنا منهما الثقافةَ، أنْ نَهتفَ: تحيا تونس، رغم الجوع والبرد والعراء. تحيا تونس، رغم الأعداء. تلك هي ثقافتُنا، فلِمَ سَطوتَ عَلينا تسلِبُنا ثَقافتَنا؟
تعالَ أُعَلّمُك الثقافةَ كما تَعلّمنا الثقافةَ. نحن ربّتُنا تانيت ومولاتُنا الكاهنةُ. نحن أبناءُ علّيسة الخالدة. نحن قرطاجةُ، في جاهليتها وفي نصرانيتها، وثقافةُ اليهود ثَقافتُنا. ونحن عَربٌ، ونحن مُسلمون. فلِمَ فَعلتَ فينا ما يَفعلُ العربُ المُسلمون، سَطوتَ علينا كما يَسطُون؟
الآنَ وقد عَلمتَ مَنْ أنا، أسألكُ كما سَألت العَجوزُ المَلكَ: مَنْ أنتَ، وما مَعنى اسْمِك؟ أسألكُ: أتَفقهُ في الثقافة؟ لَمْ أرَ في مَشروعك مَشروعاً للثقافة. إنّ الثقافةَ لا تقومُ إلاّ حيث كانت الثقافة، وأرضُك قَحلٌ تَنبتُ فيها مَدارسُ القرآن، تَسطو على الصبيان، تَجعلُهم إماءً وغلماناً للمُتعة ونكاح الجهاد، تُعلّمهم الإرهابَ، تَخرجُ بهم عن كلّ سُلطة، وإنْ كانت سُلطة الحزب الذي يَتستّرُ عن اسْمِه ويَتباهى باسْمِنا. ما مَشروعُكَ في هذا؟ ماذا تقترح علينا في باب الثقافة؟ ماذا تقترحُ علينا في باب مَدارس القرآن، والكتاتيب التي تَسيرُ في كلّ وادٍ، والمُعلّمة التي تُدرّسُ التلاميذَ عَذابَ القبر وتَزيدُهم كُلَّ أسبوع عَذاباً؟ ماذا تقترح علينا في باب المُساواة، وحُرّية الاعتقاد والكُفر والإلحاد؟ ماذا تقترح علينا في باب التكفير والتهجير وفتح الأحضان للوهاّبية
وكلّ أنواع السلفيّة النكراء التي تتّخذُ في البلاد كلَّ يوم اسْماً تتستّر به عن أموالِها العَفِنَة التي تَدخُلُ جُيوبَ الأحزاب والجَمعياتِ وتَخرُج منها بَيضَاءَ من غَيرِ سُوءٍ؟ أم إنّك تَخافُ الشيوخَ وأشباهَ الشيوخ، فتسكتُ عن الأمر؟ أجبنا إجابةً صَريحةً في هذا، واسْطُ علينا بَعدَ ذلك إنْ شِئتَ، واسْلبْنا اسْمَنا والثقافة.