في العرض ما قبل الأول لفيلم «بورتو فارينا» لإبراهيم اللطيف: العقلية الذكورية والديكتاتورية وجهان لعملة واحدة

في «بورتو فارينا» لا يحملنا المخرج إبراهيم اللطيف إلى «غار الملح» بوصفها مدينة تاريخية تعتز بشواهدها

الأثرية ولا حتّى لكونها وجهة سياحية تحلو في شواطئها السباحة صيفا... بل هو يصوّر لنا مدينة من الألوان معلّقة على شرفات الخيال كتلك الصور الهاربة من قصص الطفولة وحكايات ألف ليلة وليلة... إنّ من يجرؤ على طرق أبواب الكوميديا فهو بلا شك يستحق التحيّة لمجرد المحاولة على ولوج هذه القلعة الحصينة التي لا تسلّم مفاتيحها دفعة واحدة ولا تبوح بأسرارها كاملة. فإلى أي مدى جاء فيلم «بورتو فارينا» وفيّا للسينما الكوميدية ومتمكنا من أساليبها و تقنياتها؟
في فسحة سينمائية خفيفة الروح وغير مملة الحضور، كان جمهور قاعة الكوليزي على موعد مع العرض ما قبل الأوّل لفيلم «بورتو فارينا» الذي يلعب أدواره كل من محمد إدريس ومحمد علي بن جمعة ووجيهة الجندوبي ومحمد إدريس وجميلة الشيحي وفاطمة بن سعيدان وأسماء عثماني ومحمد السياري و نجوى زهير ومنيرة زكراوي و رياض حمدي ولطيفة القفصي وفوزية بو ميزة ...

ثورتان في وجه ديكتاتورية واحدة
في زمان غير محدّد وغير مقيّد بشرط ولا وقت تدور أحداث الفيلم في إطار مكاني مميّز تنبعث البهجة والإشراقة من أرجائه وزواياه... في هذه المدينة التي تغنّي فيها الألوان الزاهية لحن الحياة وترقص فيها القناديل فرحا بالأضواء، تعيش أسرة « فرج البحري» في بحبوحة من العيش وهي التي تمتلك مراكب الصيد وثروة البحار غير أن سلطة الأب الجائرة كما كانت تضطهد حقوق البّحارة في الميناء، كانت تضيّق الخناق على حريات أفراد الأسرة المضيقة والواسعة فتحكمهم بعصا من حديد وتطوّقهم تحت جناحها وتقرر مصيرهم بدلا عنهم.
بأمر هذا الأب «الواحد الأحد» يعود الابن «علي» ( محمد علي بن جمعة) من فرنسا ليتزوّج ابنة عمه كي ينجب الولد الذي يرث اسم العائلة. لتكون المفاجأة التي لم تكن في الحسبان !

في مراوحة بين منزل أسرة فرج» بما هو فضاء داخلي وبين ميناء الصيد البحري بما هو فضاء خارجي، تتبادل مشاهد الفيلم الظهور لتصل بنا في النهاية إلى ذروة الأحداث واندلاع الثورة في المكانين ضد شخصية «فرج» بما هي رمز الديكتاتورية.
في الميناء أعلن الصيّادون العصيان ورفضوا الخضوع والإذلال، وفي المنزل وقفت «سارة» (أدت الدور أسماء العثماني) في وجه الجميع في حفل العرس وصرخت برفضها لزواجها من ابن العم دون موافقتها ورضاها وبدوره غيّر»علي» موقفه من مسألة التبني ولم يعد يرى مانعا في ذلك لإنقاذ علاقته بحبيبته الأجنبية... وهكذا تهاوى عرش السلطة الغاشمة عندما قاد الضحايا زمام أمورهم بأنفسهم وأرادوا أن يكونوا أحرارا.

كوميديا متأرجحة على حبل النجاح والإخفاق
كمن يمسك بتلابيب حلم عصي إلى حين، اختار المخرج إبراهيم اللطيف الاشتغال على سينما الكوميديا الاجتماعية وإن كان هذا الفن مخيفا بالرغم من أنه يبدو خفيفا. بعد فيلمه الأخير «هزّ يا وّز» سنة 2011 ، يواصل المدير السابق لأيام قرطاج السينمائية العزف على مزمار الكوميديا في فيلمه الجديد «بورتو فارينا» مع نضج أكبر ووعي أكثر بتحديات التخصص في مضمار سينما الإضحاك.

إن عدد الأفلام الكوميدية التونسية يكاد يعدّ على أصابع اليد الواحدة، و لا شك أن الأصعب من إنجازها هو نجاحها!  يبدو أن المخرج إبراهيم اللطيف كان واعيا بصعوبة خياره، فاستنجد بأهل المسرح ليضمن النجاح والتوفيق على مستوى أداء الشخصيات بل وذهب إلى أبعد من ذلك بأن نجح في إعادة المسرحي محمد إدريس إلى السينما بعد سنوات طويلة من الغياب ليسلم له دور البطولة في شخصية «فرج». كما كان الفنان محمد على بن جمعة (في دور الابن علي) مفاجأة الفيلم بعد التغيير الكبير في شكله المخالف للمعتاد. وقد كان جليا حضور قدر من التناغم والانسجام بين شخصيات الفيلم التي اجتهدت كلّ على طريقتها للإقناع وحتى الإضحاك.
كما كانت الصورة الجميلة في «بورتو فارينا» بإمضاء محمد مغراوي ورقة ناجحة في المراهنة على حظ الفيلم في الفوز بتذكرة إلى قلوب الجماهير العريضة. كذلك جاء توظيف الموسيقى والأزياء والصوت... موّفقا في خدمة الفيلم رؤية ورؤى.
ويبقى السؤال هل أن « بورتو فارينا» هو فعلا كوميديا اجتماعية لامست سقف النجاح أم وقفت دون عتبات التميّز؟

يسعى فيلم «بورتو فارينا» إلى خلق الإضحاك ورسم البسمات عبر الإيحاءات والإيماءات والتلاعب بالمفردات والكلمات في مواقف بدت في أحيان كثيرة أشبه بـ»الكليشيهات» والتندر في الخلوات.
كما بدت مشاهد الفيلم متأرجحة ما بين اللقطات المضحكة والأخرى الباكية ومتذبذبة ما بين الفكاهة والمأساة... فلم تسر أحداث الفيلم على نسق واحد وواضح كوحدة متناغمة، فمرّة تصدح بقهقهتها ومرة أخرى تغرق في بكائها وحزنها (على غرار مشهد المواجهة بين الابن مع الأب في السجن واكتشاف علي بأنه ابن غير شرعي...) فكأننا بالفيلم يصاب بانفصام في الشخصية بالرغم من أنّه صنّف نفسه منذ البداية بأنه ينتمي إلى سينما الكوميديا!

اشتغال ذكي على رمزية الحذاء
لعلّ من أجمل مشاهد فيلم «بورتو فارينا» هو الاشتغال على رمزية الحذاء وعلاقة السيد «فرج» بأحذيته الكثيرة والمختلفة الألوان التي يستبدلها في اليوم الواحد لأكثر من مرة بعد أن تلّمعها له زوجته بالبصق عليها ثم مسحها... ويحيلنا هذا المشهد المكثف الدلالات على صورة الحذاء في الذاكرة والمخيال الشعبي، انطلاقا من «بخلاء الجاحظ» وحرصهم على سلامة نعالهم لأطول وقت ممكن وصولا إلى تحوّل الحذاء إلى أداة احتجاج ما بعد ثورات الربيع العربي في سوريا ومصر... وليس الحذاء في فيلم إبراهيم اللطيف سوى اختزال لصورة الديكتاتور الذي يهدّد كل معارض لسلطته بأنه سيداس بالأحذية وليست ماسحة الحذاء سوى تمثيل لفئة الوصوليين الذين هم على استعداد للعق أحذية الأسياد من أجل المصلحة.
وفي نهاية الفيلم تعلن إحدى الشخصيات النسائية في دور»مبروكة» الثورة فتدوس أحذية السيّد «فرج» لتفرغ في حركات غاضبة شحنات من الألم والقهر اختزنتها طويلا حتى ضاق صدرها عن احتمالها!
وقد كان مشهد الاختتام محملا بالموعظة والدرس المفيد، فبعد أن اعتاد «فرج» على التباهي بأحذيته اللامعة والأنيقة، عاد يجرّ حذاء أكبر من مقاسه وأوسع من قدمه... في النهاية لم يعد الديكتاتور سوى بخفي حنين !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115