السينما العراقية تحت المجهر من خلال فيلم «صمت الراعي» لرعد مشتت - قاعة أفريكا: بين دكتاتورية النظام ودكتاتورية العادات تضيع الاحلام

حرب الطائفية موجعة واخرى عشائرية قاتلة وثالثة صراع للعادات و التقاليد هكذا تحدثنا كاميرا المخرج

رعد مشتت عن حال قرية العيون جنوب العراق بين 1978 و 2003 اي زمن الحرب مع ايران ثمّ بعد سقوط نظام صدام حسين، مشاهد صادمة ودماء ورصاص وطائفية وعشائرية ووسطها تضيع أحلام الشباب ويقصف عمر الصغار في حروب ضروس لا يعرفون سببها.

«صمت الراعي» عرض في قاعة الافريكا ضمن فقرة سينما تحت المجهر، فيلم من تمثيل كل من محمود ابو العباس والاء نجم و مرتضى حبيب و شيماء خليل و سامر قحطان و نهاد سادايو وانعام عبد المجيد و تصوير لزياد تركي ومونتاج لمحمود مشتت وموسيقى لدريد فاضل وانتج في اطار مشروع «بغداد عاصمة لثقافة للعام 2013».

هل انت بطل ام خائن؟
قرية العيون عام 1987 في جنوب العراق، قرية ريفية منازلها متواضعة، بيوتها من طين وقشّ، فراشها تصنعه النسوة من وبر الماعز وصوف الأغنام يمارسون الفلاحة ورعي الاغنام و النسوة يشتغلن في كلّ ما هو بيتي، الكهرباء لم تصل بعد الى تلك القرية البعيدة، الماء ايضا نادر الوجود ووحده النهر يزود الناس وحيواناتهم بالماء، تبدو الصورة طبيعية لقرية بعيدة كلّ البعد عن المدينة.

قرية لها نواميسها العشائرية يقودها حميد الصقر «محمود ابو العباس» تبدو حياتهم طبيعية وهادئة ككل القرى البعيدة، ولكن تنقلب الاحداث فزهرة بنت حميد خرجت لجلب الماء ولم تعد، في الوقت ذاته خرج سعود لإتمام اجراءات التحاقه بالخدمة العسكرية ولم يعد.

في الفيلم تقترب الكاميرا من تفاصيل الشخصيات، تسلط الضوء على الجزئيات، جزئيات عاشها الكثير من ابناء العراق، ولسائل ان يسال ما دخل سعود ذاك القروي البعيد في الجيش والحرب التي تدور في المدينة، لم يدفع شبابه ثمنا لحرب لن تصل قريته ولن يستفيد منها شيئا، شخصية سعود هي عينة عن آلاف الشباب العراقي الذي راح ضحية الحروب العراقية الايرانية ثم الحرب العراقية الامريكية.

يغيب سعود عن الاحداث لمدة ستّة عشر عاما، يتّهم فيها بخيانة العشيرة وانتهاك تقاليدها، ستة عشر عاما تنبذ اخته وبناتها حدّ الجنون فقط لأنهن اتهمن سعود بالخيانة والهروب وبعد كلّ تلك الفترة يعود الشاب الذي اكلت الحرب شبابه وتركت السنون بصمتها على شعره ووجه الى القرية ليواجه قساوة العشيرة فدمه حلال بسبب الخيانة و كبير العشيرة الذي ازال عقاله من فوق رأسه حتى الاخذ بثاره يطلب من ابنه الطفل قتل سعود «السجن للرجال».

بعد ستّ عشرة سنة يعود سعود إلى قريته وحين تطلب منه ابنة اخته الهروب لأنّه «خائن» يحدثهم انه «لم يهرب مع احد فقط كان مسجونا و خرج مع من خرجوا بعد ان تحطمت ابواب السجون بعد سقوط نظام صدام حسين» وبكلمات متوترة ونظرات شاخصات يتحدّث سعود بكلّ وجيعة عن الاسر و الحرب ويقول انّ السلطات قد ساقته إلى الحرب دون أن يأخذ الفرصة لإعلام ذويه، لأنهم «كانوا يجندون كل شيءٍ يتنفس»، كما قال لأخته وهو يروي لها ولبنتيها قصة غيابه. وقع في الأسر الإيراني، عاد مع أقرانه الأسرى، تسلمتهم المخابرات وزجّت بهم في الشعبة الخامسة بتهمة التجنّد لصالح العدو أثناء فترة الأسر، شارك في الحربين وهو لا يعرف «ان كنت بطلا ام خائنا»، رفع السلاح وحارب واسر وتاهت احلامه ورفاق السلاح وهم لا يعرفون من يحاربون او لماذا، كلمات سعود الموجعة هي البعض من معاناة الشباب في العراق معاناة احلام اجهضت بسبب الدكتاتورية وقساوة النظام الذي كان يقتل كلّ من يرفض الانصياع لامر ما.

حين يكون موت الفتاة اهون من هروبها مع من تحب
صور صادمة، صوت العويل و النواح، صرخات الام وولولات، صوت الرصاص ووجوه شاحبة، تهديد ووعيد جميعها ميزت فيلم صمت الراعي.

المشهد الاول للفيلم يجعلك تتساءل الاف المرات، فهناك مجموعة من النساء يلبسن الاسود وفجأة تعلو زغاريد الفرح ويقمن بالباس احدهنّ اللون الابيض؟ مشهد صادم ويدفع للسؤال معا.

مع تقدّم أحداث الفيلم يفهم ان تلك الامّ الثكلى هي والدة «زهرة» التي خرجت لتجلب الماء ولم تعد، فظنوا انها هربت مع حبيبها «هريبة، خطيفة»، لكن الاخت ترفض ذلك « لا يمّة، زهرة تلمع مثل الفضة»

ولكن بعد عدم وجود جثتها لبست الام اللون الاسود ونزع الوالد العقال عن راسه حتى الثار لشرفهم ولكن حين عرفوا انّ الفتاة لم تهرب وانا قتلت حينها يبتهجون لانّ شرفهم لم يلوّث وينزعون السواد ويحتفلون بشرف لم ينتهك، فموت ابنة الثالثة عشرة ربيعا اقلّ وقعا من هروبها مع حبيبها حسب نواميس العشيرة.
بعد ساعة من مشاهدة الفيلم يعرف المشاهد انّ زهرة لم تهرب وانّما قتلت ودفنت في مقبرة جماعية مع الاكراد الذين قتلوا اوّل الفيلم، ووحده صابر راعي الغنم شاهد الحقيقة وخاف من البوح بها.

فالراعي اوّل الفيلم شاهد أسطولا لجيش النظام العراقي بجرافات وحافلات، ينظر قائدهم في المنظار ليجد المكان خاليا، حينها تحفر الجرافات حفرة كبيرة، ثم ينزلون عائلات كردية من الحافلات نسوة ورجالا وشيوخا وأطفالا يرمونه في الحفرة ثم يرمونهم بالرصاص وقبل ردمهم يشاهدون زهرة من بعيد، تلاحقها السيارات تخبرهم انها جاءت للتزود بالماء، لم يشفع لها صدقها ولا صغر سنها فتجر وتقتل وتدفن مع الجميع، مشهد صادم شاهده الراعي ولم يستطع حمايتها ولا اخبار اهلها بالحقيقة.

الراعي صمت عن الحقيقة ليضمن لنفسه خيار الحياة خوفا من بطش النظام ورجاله، وبعد ستة عشر عاما تحديدا بعد عودة سعود يصرّح بما خبأه لاعوام ويقول ما شاهد، يذهب الكل الى المكان يحفرون ليجدوا ملابس زهرة واقراطها وقلادتها الفضية حينها تعلو هتافات الشرف والحياة.

«صمت الراعي» هو صمت الكثيرين اما عن جرائم النظام السابق، هو صمت امام مجازر جماعية نقلتها كاميرا رعد مشتت بكل حرفية في مشاهد مبهرة وموجعة تلخّص الوجع العراقي وتشتت الناس بين العشيرة والطوائف و النظام.

محمود ابو العبّاس مبدع وشاب لا يشيخ
فنّان مميز من خيرة ممثلي العراق، هو ابن البصرة عراقي الروح والهوى، فنّان مختلف صنع لنفسه مجدا تمثيليا ولمع نجمه في سماء السينما والمسرح، الفنان محمد ابو العباس ابدع في دور شيخ القبيلة «حمدي الصقر» نظرته الحادة كانت عنوان للشخصية، دموعه عنوان لصدقه في اداء الشخصية، في مشهد نزع العقال وتقوّس الظهر والرقة على الوجه أعطى للعقال قيمة اكبر من التاج فبدا كملك ينزع تاج العزّة ويلبس الذلّ، مشهد مؤثر أكد ابداع ابو العباس المتواصل.

فنّان له ضحكة طفل وحكمة الشيخ، ورقة الشباب ، عاشق لبلده الذي غادره مجبرا ثمّ عاد اليه بعد سنوات غياب وطيلة سنوات الغربة انجز اكثر من 30عمل مسرحي نذكر منها «ياطيور» و«الرحلة» و«هويتنا والعولة»، هو وجه سينمائي مميز قدم أعمالا خالدة في السينما العراقية على غرار «الفارس والجبل» و«عمــارة 13» وحب في بغداد» و «السيد المدير» و«صمت الراعي» ، ابو العبّاس شامخ كتاريخ البصرة هو كنخيلها لا يعرف غير الشموخ.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115