في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية: «فتوى»... أسالت دم الاغتيال السياسي في تونس !

في «فتوى» لا تنتهي الأسرار أبدا ولا يموت التشويق ولا يكفّ المخرج محمود بن محمود عن لعبة

حرب الأعصاب وحرق الأوراق فكلما ظنّ المتفرج أن خياله قد اهتدى إلى اللغز وأن ذهنه قد فكك الأحجية إلا ويستهزئ بنا صاحب الفيلم ليغرقنا من جديد في عقدة جديدة ومفاجأة بوقع الصدمة وحقيقة غير متوّقعة... فلا نملك إلا أن نتساءل هل نحن أمام فيلم روائي أم سلسلة بوليسية غامضة أم مشهد حقيقي وقطعة من الحياة عاشتها تونس وذاقت مرارتها بسبب «فتوى» أطلقها أدعياء الدين ودعاة التشدد والتطرف فكان ثمنها باهظا موّقعا بدم الاغتيال السياسي!

في العرض الأول لفيلم «فتوى» للمخرج التونسي محمود بن محمود والمنتج الحبيب بلهادي ضمن أيام قرطاج السينمائية لا يبدو فقط أن الخيار كان موّفقا في برمجة العمل ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة بل من المتوّقع أن يحصد هذا الفيلم التتويج في اختتام المهرجان لأنه يملك مقومات التميّز والنجاح ... وقد لعب أدواره كل من أحمد الحفيان وغالية بن علي وسارة الحناشي ورمزي عزيز ومحمد ساسي غربال وجمال المداني وعبد القادر بن سعيد وعزالدين المبعوج ومحمد الداهش ومريم الصياح وشاكرة الرماح وكريم بن داود وسماح التكابري ...

قصّة مؤثرة على إيقاع بوليسي
ما بين مشهد بداية يظهر فيه الأب إبراهيم في المطار  في رحلة إيّاب ومشهد نهاية يعود فيه الأب نفسه مرة أخرى إلى المطار في رحلة ذهاب، يسافر بنا المخرج التونسي محمود بن محمود إلى لحظة سينمائية مختلفة تحكمها الألغاز والأسرار محفوفة بالموت والخطر...
استدعت الفاجعة أن يعود إبراهيم (أحمد الحفيان) من فرنسا ليقوم بمراسم دفن ابنه الوحيد بعد موته في حادث سير ... ولكن سرعان ما يساور الأب المكلوم الشك في ظروف وفاة فلذة كبده وتسيطر عليه الظنون خصوصا وأنه اكتشف أشياء وميولا لم يكن يعرفها عن ولده «مروان الناظور». ومن هنا يلملم الأب جرحه الغائر ودمعه الحارق ليرتدي قبعة المحقّق ورجل البوليس لتنطلق رحلة البحث والتحرّي عن سبب وفاة ابنه الشاب الذي تركه طالبا في معهد الفنون الجميلة مقبلا على الحياة فإذا بتحوّل جذري يطرأ على حياته لينتهي به الأمر إلى فريسة في شراك الفكر السلفي المتطرف !

أمام أحجية من الألغاز ، يجد إبراهيم نفسه مجبرا على عملية تفكيك وإعادة تركيب للحظات الأخيرة في حياة ابنه بالعودة إلى مكان سكنه الجديد الذي يطوّقه المتشددون من كل جهة وبألف شكل ووجه وبالمرور على المسجد الذي زوّده بكتب التطرف واستدرجه للصلاة وراء إمام متطرف وبالتوّجه إلى معهد الفنون الجميلة للاستفسار عن سبب طرد ولده لتغيّر سلوكه وارتكابه العنف في حق زميلته ... وهنا يراوغنا المخرج جميعا بما في ذلك الأب إبراهيم بأن «مروان» لم يمت بل اختار وضع حد لحياته انتحارا بعد أن ضاقت به السبل وبلغ حالة نفسية حرجة! ولكن هيهات... فالمخرج لم يرأف بمشاعرنا بعد ولازالت رحلة التشويق متواصلة فدرب الحقيقة لا يزال بعيدا...

فيلم لا يخشى الاتهام وإدانة المتورطين في الإرهاب
في تنافر والتقاء، في قطيعة وتواصل، في تقارب وتباعد... تسحبنا كاميرا «فتوى» إلى عالم من التناقضات والثنائيات المتضادة حيث رواحت المشاهد بين نور الحياة في الأماكن المفتوحة وظلمة المكان والأفق الضيق في مشاهد مرور المتشددين في الدين والمتطرفين في الفكر... وما بين نسق بطيء وإيقاع سريع رواحت عدسة كاميرا المخرج ما بين لحظات هدوء ومشاهد حركة وتشنج رافقت لحظات التصادم والمواجهة مع التكفيريين سيّما عند محاصرة الأب لهم بالسؤال والبرهان عن توّرطهم في موت ابنه الوحيد. وبالرغم من قدر من الذكاء وشيء من الدهاء في اختيار زوايا التصوير وتوليد المشاهد واقتفاء الأحداث، فقد بدا لنا الفيلم في بعض مواضعه يشكو من التمطيط والتنميط... لكن هذا الانطباع لا يفسد للفرجة قضية أمام فيلم مثقل بالأسئلة ومسكون بالهواجس الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية... أمام شاشة «فتوى» لسنا فقط أمام فيلم هويته جمالية مختلفة وعنوانه لغة سينمائية مميزة بل نحن أمام سينما ملتزمة تجرأت على الخطر وسمّت الأشياء بمسمياتها وأشارت بأصابع الاتهام إلى من دافع عن الإرهابيين وبرّر تواجدهم في الجبال وإلى المسؤولين المباشرين والأطراف الخفيّة في تصفية الفكر الحر وأصوات الحداثة والمدنية ليتلطخ تاريخ تونس بسواد الذكرى ودم الاغتيالات السياسية ويبقى لنا سؤال الإدانة: بأي ذنب اغتيل شكري بلعيد ومحمد البراهمي؟

حذار... الخطر لازال قائما!
يشرّع الأب إبراهيم نافذة مسكن ابنه الفقيد على «نهج المرّ» بالعاصمة فتفزعنا صور السواد في كل مكان من ملابس أفغانية ووجوه متخفيّة وراء النقاب وكتب تحرّض على عقيدة الموت والتطرف تباع علنا على قارعة الطريق... ولكن ما يوجعنا أكثر أن هذه المشاهد عشناها حقيقة وكانت ولاتزال تعربد وتعبث من حولنا وتفتي وتحلّل حسب هواها ما بعد 14 جانفي !

إن أبدع الممثل أحمد الحفيان حد الانبهار في أداء دور الأب إبراهيم فقد أجادت الممثلة غالية بن علي لعب دور الأم الثكلى والمرأة التونسية الحرة والسياسية صاحبة المبدأ والموقف التي لا تهاب التهديد والترهيب لا لشيء فقط لأنها ألفّت كتابا يفضح الفكر المتطرف ويدحض أطروحة التشدد الديني ... فإذا بالظلاميين يصدرون ضدها فتوى بالقتل ومن هنا تأتي دلالة عنوان فيلم «فتوى».

وبعد أن ألقى بنا في غمار أحداث صاخبة وجعلنا نخطئ التأويل في كل مرة يباغتنا المبدع محمود بن محمود بحقيقة كانت بحجم الصدمة والمفاجأة حيث باحت في النهاية زوجة الإرهابي الخطير للأب إبراهيم بالسر الدفين : مروان لم يمت بل قتله الإرهابيون لأنه دافع عن أمه ورفض قتلها بسبب كتابها !
بعد أن انكشفت الخلية الإرهابية وانفضح أمر السلاح المخبّأ في المسجد وأنقذت الأم السياسية من الاغتيال وعثر على قائمة تضم 9 من السياسيين والفنانين والإعلاميين المهددين بالتصفية... عاد الأب أدراجه إلى المطار ليعود من حيث أتى معانقا بفخر كتاب زوجته ضد الإرهاب والظلام ... مهلا، لا تظن عزيزي القارئ أن النهاية سعيدة فمرّة أخرى يفاجئنا المخرج برصاصة غادرة اغتالت إبراهيم في المطار! وكأننا بفيلم «فتوى» ينبّهنا بأن الخطر لازال قائما  طالما لا يزال أعداء الحياة بيننا!

لماذا تم منع تصوير «فتوى»
في مجلس النواب؟
بعد أن تجوّلت كاميرا المخرج محمود بن محمود في عدد من أحياء العاصمة ومدينة قربص بنابل لتصوير مشاهد «فتوى» كان من المتوّقع أن يحتضن مجلس نواب الشعب تصوير مشاهد من الفيلم إلا أنه تم منع ذلك وقد سبق للمنتج الحبيب بلهادي أن وّجه في تصريح لـ«المغرب» أصابع الاتهام إلى حركة النهضة بوقوفها وراء منع التصوير. وبعد العرض الأول للفيلم اتضح لنا أن المخرج اكتفى بالتصوير أمام الباب الخارجي للمجلس في حين وصلتنا مداخلة النائبة عن طريق موجات الراديو وهي تدين الأطراف السياسية المتورطة في تشجيع الإرهاب وتسفير الشباب..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115