عن طريق شبكات «المافيا» وسماسرة السوق السوداء... يهان التراث في بلادنا حيث تطال يد الجهل الكنوز الأثرية بالاعتداء وتهدم معاول الحمق موروثا حضاريا هو عماد تاريخنا وعنوان هويتنا...
«إن عُرف السبب بطل العجب» ولكن يحدث أن يكون العذر أقبح من الذنب، فبحجة تصريف مياه الأمطار الأخيرة التي تهاطلت بغزارة في الأيام الأخيرة يتم في غضون أيام قليلة تسجيل جريمتي اعتداء على التراث الأولى في منطقة المحمدية من ولاية بن عروس والثانية في ولاية المنستير .
ثقب في رباط المنستير !
هل يستقيم الحديث عن المنستير دون المرور على ذكر رباطها الشهير الذي صار عنوان هوية المدينة وأبرز معالمها الدّالة عليها؟ أليس رباط المنستير الذي تأسّس في سنة 796ميلاديا في عصر الدولة العباسية من أقدم الحصون الدفاعية في المغرب العربي وأعرقها تاريخا وأروعها معمارا.... فبأي ذنب تنتهك حرمة هذه الثروة الأثرية والحضارية بعنهجية واستهتار؟!
وتعود تفاصيل حادثة الاعتداء على سور المدينة العتيقة في المنستير إلى الساعات الأخيرة حيث أقدم بعض السكان على إحداث ثقب في السور التاريخي لتصريف مياه الأمطار بعد أن شكلّت عائقا أمام الخروج والوصول إلى منازلهم...وحسب تصريح المسؤولين في الجهة فإن هذه الجريمة في حق تراث وتاريخ المدينة ارتكبها الأهالي بصفة عشوائية دون علم السلطات المحلية وطلب مساعدة البلدية قبل التجرؤ على الآثار!
وكما هو متوّقع في مثل هذه الحوادث سيقوم المعهد الوطني التراث بترميم ما هدمته أيادي الجهل من السور التاريخي وسيتم رفع قضية في الغرض ضد المعتدين... فهل هذا كاف لعدم تكرر مثل هذه الحوادث؟
اعتداء على حنايا المحمدية التاريخية
بعد أن بقيت خالدة لعصور وعهود عصيّة عن الفناء والاندثار، سقطت الحنايا الرومانية في منطقة المحمدية شهيدة الجهل والتخلف بتواطؤ من السلط الجهوية والمسؤولين المحلييّن لحزب النّهضة الذين حرّضوا ولو بشكل غير مباشر المواطنين يوم 19 أكتوبر 2018 على هدم جزء من حنايا المحمدية بذريعة أنها «كانت سببا في تسرّب مياه الأمطار إلى منازلهم» ! وأمام هذه الجريمة التي تستهدف الهوية والمعالم التاريخية أصدرت في الساعات الأخيرة مجموعة من منظمات المجتمع المدني بيان تنديد تساءلت فيه باستنكار: «هل يجب تذكير المسؤولين عن التراث في بلادنا بأن إحياء الحنايا التي تمّ هدمها في المحمدية مثّل، بداية من سنة 2006، جزءا من مشروع وطني سمّي ‹›طريق الماء›› التي تنطلق من معبد المياه بزغوان وتنتهي في صهاريج المعلقة بقرطاج وقد بقي المشروع غير مكتمل منذ ذلك التاريخ ؟ وهل يجب تذكير المسؤولين ذاتهم أن المركّب المائي «زغوان – قرطاج» سُجَّل في سنة 2012، بطلب من الدولة التونسية، في القائمة الدوليّة للتراث العالمي التي تشرف عليها منظمة اليونسكو وقد بقي الملفّ دون متابعة فنيّة لغاية تسجيله في قائمة التراث العالمي ؟.
تقصير الدولة في حق التراث
لعل جريمة الاعتداء على الحنايا في المحمدية شجّعت المعتدين على رباط المنستير على الإساءة للآثار والتاريخ في ظلّ غياب الردع والعقوبات الصارمة لكل من تسوّل له نفسه انتهاك حرمة الثروة الإنسانية التي لا تقدّر بثمن! وليس المواطنون وحدهم المذنبون وإن ركبوا موج الجهل والحماقة بل تتحمل وزارة الإشراف ومؤسسات حماية التراث جزءا من المسؤولية لتقصيرها بوجه أو بآخر في حماية المواقع والآثار والمعالم التاريخية. كما أن الجهات الرسمية المؤتمنة على التراث أضاعت حلقة مفقودة في سبل المحافظة على هذه الكنوز التاريخية والأثرية وذلك بإضاعة الفرصة في جعل المواطنون أنفسهم حراسا أمناء على الآثار من حولهم عبر وسائط التحسيس والتوعية بأن التراث مبعث اعتزاز وعنوان انتماء ملك للإنسانية جمعاء وأن الاعتداء على هذه الثروات هو طمس للهوية وإفراغ للذاكرة من عمقها الثقافي والحضاري والتاريخي ...
على صعيد آخر، لابد للمجتمع المدني أن يكون يقظا ومتابعا لواقع التراث في بلادنا للتصدي لكل محاولات انتهاكه وسوء استغلاله ... فلولا المواقع والمتاحف والآثار لما كانت لنا شواهد عن تاريخ هذا البلد العريق الضارب بجذوره في عمق الحضارة، ولما حقّ لنا رفع الرأس عاليا افتخارا بتونس أرض الثقافات ومهد الحضارات.