فإذا به ينتفض كـ «طائر الفينق» من رماده ليغرّد في كل مكان لحن أنشودة الحياة. في سمّامة لم تهجر البلابل الأفنان رغم دوّي الرصاص ولم تتبّخر رائحة الإكليل رغم دوس أقدام الجهلة والخونة ولم يرتحل السكان رغم حصار الإرهاب وشظف العيش... هي أرض أكبر من النسيان وعصيّة عن الاستسلام فاستحقت أن تكون منارة صمود وقلعة نضال. في سفح جبل سمامة تم افتتاح المركز الثقافي للفنون والحرف ليكون ثكنة ثقافية تدير الرقاب وتستقطب الاهتمام لتثبت للعالم بأسره أن سمّامة ثقافة وفن وليست موتا وإرهابا...
في الطريق إلى جبل «سمّامة» كانت آثار سبيطلة تلوّح لنا في حنّو وإغراء وكأنها توّد أن تهمس إلينا بأسرار لم تكشف بعد عن تاريخها المجيد، وبدا لنا «برج النصر» باسم الثغر ومشرق الوجه في شموخ وكبرياء وهو الذي يترك دهشة في عيون كل من يصادفه... دهشة لم تنته أسئلتها وتخيّلاتها إلا حين طالعنا من بعيد المركز الثقافي للفنون والحرف بسمامة مستوليا على رغبتنا وفضولنا في اكتشافه والتجوّل في أرجائه وسبر أغواره...
الأطفال هم الجمهور... والأبطال
كان المسلك في الصعود إلى المركز الثقافي للفنون والحرف بسمامة محاطا بسياج من نبات الصبّار الذي يحمل في وجه من وجوهه شيئا من هوية سكان المكان، فقسوة أشواكه لم تخف خضرته ونضارته كما لم تحجب قسوة الطبيعة ملامح جمال طبيعي وأخاذ في وجوه أطفال الريف، وكما لم توار المعاناة وداعة وشهامة متأصلة في سكان الجبل... هؤلاء الأطفال وهؤلاء الأهالي هبّوا لاستقبال زوّار المركز من شخصيات فنية وضيوف أجانب وإعلام وطني وعربي ودولي منشدين الأهازيج والأغنيات، موّزعين البسمات وباقات من الشيح والإكليل... ليأسر حواسنا عبق الجبل ويحرضنا على الحلم والخيال.
في أجواء جبلية خالصة ومناخات ريفية بحتة، دقت مزامير الفرح وقرعت طبول الاحتفال بافتتاح المركز الثقافي للفنون والحرف بسمامة بعد سنوات من العمل و الانتظار متوّجا حلم رعاة سمامة بأن يكون لهم مقرا للنشاط والاحتفاء بالحياة فباركت العجائز قبل الشيوخ ولادة هذا المشروع الأول من نوعه في تونس والعالم العربي وانتشر الأطفال راقصين، ضاحكين، مصفقين لهذا الإنجاز الذي سينتشلهم من براثن الحرمان والفراغ ليكون لهم مركزا للترفيه والتثقيف وصقل المواهب...سيّما وأن هذا المشروع الثقافي يترّبع قبالة مدرستهم وكأنه يفتح لهم أحضانه لرعايتهم بعد انتهائهم من النهل من منابع الدرس والعلم.
وفي مثل هذه المناطق ومثل هذه الظروف لا يمكننا سوى التساؤل في وجع: بأي ذنب تداس حقوق الطفل وتهضم حقوق الإنسان في المناطق المفقرة والمنسية من جغرافيا البلاد التونسية؟!
حلم انبثق من ثنايا العدم
في يوم سطعت شمسه لتهبنا الدفء والنور وكأنها تبارك لحظة ولادة المركز الثقافي للفنون والحرف بسمامة وهي التي تمقت فئران الجحور وخفافيش الظلام... كان افتتاح هذا المركز الجبلي بمثابة إعلان حياة في وجه العدم الذي يتهدد المكان والخطر الذي يتربص بالسكان وهم يواجهون كل يوم الموت بشجاعة وسخرية من الإرهاب.
عن جبــل سمامة روى لنا التاريـــــخ أن مجموعة من الفلاقة بقيادة الأزهر الشرايطي احتموا بالجبل لمواجهة الاستعمار الفرنسي... ومن وقتها إلى الآن غرقت المنطقة في النسيان والإهمال إلى حين تداول اسمها بقوة في السنوات الأخيرة ليس لأن الحكومة فكرت في بعث مشروع تنموي بها أو خلق مواطن تشغيل بها... فهي خارج الأضواء وخارج الاهتمام! بل لأنها صارت موطن ألغام وأرض شهادة روى رجال الأمن والجيش ونساء الوساعية ورجالها ترابها من دمهم...
وفي مغامرة جسورة ومخاطرة أشبه بالجنون، أبى الفنان والناشط الثقافي عدنان الهلالي أن يترك مسقط رأسه وموطن صباه فريسة للإرهاب والعزلة... فتحدّى الخطر وانطلق نحو الجبل منشدا لحن الحياة ومعليا راية الفن ومعلنا سمامة عاصمة كونية للثقافة الجبلية. فصار الجبل مسرحا مفتوحا لباقة من المواعيد الفنية والتظاهرات الفنية انطلاقا من «عشّاق الطبيعة» في سنوات 1991 و1992 و1993 مرورا بيوم الجبل السنوي في2001 وصولا إلى يوم عيد الرّعاة الذي انطلق سنة 2012 ومن هناك انطلقت فكرة بعث مركز ثقافي جبليّ. وبعد ست سنوات من العمل والانتظار صار حلم المركز الثقافي للفنون والحرف بسمامة حقيقة ومشروعا رائدا في تونس والوطن العربي.
ويعود الفضل في تمويل هذا المشروع الثقافي إلى مؤسّسة رامبورغ ومديرتها ألفة رامبورغ التي رعت المشروع بإيمان كبير وسخاء كريم فموّلت المركز الجبلي بحوالي 1.5 مليون دينار على أرض تبّرع بها عدنان الهلالي على سفح سمّامة بريف الوسّاعية.
على مساحة 6000 متر تم تشييد المركز الثقافي الجبلي ليكون منارة للفنون وورشة للحرف إذ يتكوّن من ساحة كبرى تتوسّط أربع قاعات للورشات الحرفية من نسيج و حلفاء وتقطير زيوت... كما يشتمل على فضاء خاص بالأطفال وقاعة كبرى للعروض الفنّية مجهّزة بمستلزمات العروض الحيّة والسّينمائية وقاعة رقص ومسرح هواء طلق وملعب رياضي متعدد الاختصاصات (كرة سلة، كرة يد، كرة طائرة، ميني فوت..) كما تتوفر به كل المرافق من إدارة ومكتبة ومشربة ومطبخ وبيت حراسة ومأوى للسيارات...
إحياء للحرف اليدوية واحتفاء بكل الفنون
لا شيء قد يصف بريق الفرحة في عيون الأطفال ولا كلمات تستوعب حجم السرور في رقصة حبور الصغار وهم ينثرون في المكان البراءة والجمال والسعادة... كانوا ينتقلون كالفراشات المزهوّة بألوانها الفاتنة فتلثم الزهور وتتلذذ بالرحيق وكأن الغبطة لا تسعهم وقد أصبحت لهم مكتبة ومسرح وملعب كرة... بعد أن ضاق عليهم الأفق واستوطن الإرهاب الجبل.
في افتتاح المركز الثقافي للفنون والحرف بسمامة كان الأطفال هم الجمهور والأبطال وهم الذين أدهشوا الحضور برشاقة لوحات السرك ومتعة عروض عرائس العصيّ في تأطير من فريق مختص من بروركسال تحت إشراف «ليسبات بينوت» و»جان بيار باغلياري»...
هناك في الجبل فنانات بالفطرة ومبدعات بالسليقة تعلمن من الطبيعة فن تنسيق الألوان وأسرار الجمال فحكن من خيوط الصوف لوحات فنية متناسقة الخطوط وحوّلن الحلفاء القاسية إلى تحف تسحر الأبصار... فخصّص لهن المركز الثقافي الجبلي ورشات لممارسة حرفهن اليدوية لتكون موردا لرزقهن في منطقة شحيحة فيها مواطن الشغل ولحماية هذه الحرف والإبداعات من الاندثار. وهكذا سيكون المركز الثقافي للفنون والحرف بسمّامة بمثابة المخبر الثقافي الذي سيشتغل على هذا التراث الجبلي المادي واللامادي تثمينا وترويجا وإشعاعا...
وعن مسار بعث المركز الثقافي الجبلي بسمّامة وبرنامج عمله مستقبلا صرّح صاحب البادرة عدنان الهلالي بالقول: « بصمود الجبال واجهنا العراقيل الكثيرة بنكهة التحدي والإصرار فتضاعفت الطموحات والأفكار والإمكانات....وفي إطار شراكات مع أكاديمية بروكسال لفنون السرك والمركز الدولي للفنون المعاصرة الإيطالي ومشاريع تعاون حدودي مع فنانين من ولاية تبسة الجزائرية سيقدم المركز برنامجه مفصلا قريبا ضمن نشاط ورشات الموسيقى والرقص والفنون التشكيلية والأدب والسرك والسينما والفوتوغرافيا...
بعد قضاء يوم مختلف على سفح جبل سمامة وبعد ساعات من الإمتاع والمؤانسة مع رعاة ريف الوساعية ولحظات صدق وصفاء مع براءة الأطفال كان لابد من حزم الأمتعة والاستعداد إلى الرحيل وقد توارت الشمس في الأفق وأغمضت عينيها لتعود إلى مخدعها... فوّدعنا الجبل على أمل اللقاء في موعد جديد يكون جميلا كالقمر ومشرقا كالشمس في ثكنة الثقافة بسمّامة.
تحيّة للأمن... باقة ورد للجيش
على سفح جبل سمامة لا مكان للخوف ولا للاحتراز ولا الحذر من لغم غادر ولا هجوم جبّان... فحياتنا وسلامتنا يحرسها جنود بواسل ورجال أمن شجعان قضوا الساعات الطوال وقوفا على الأقدام في وضع استنفار للسلاح والحواس ليحرسوا حلما جميلا ومشروعا ثقافيا رائدا.. فألف تحية لجنود الفداء.
ارتسامات... وهوامش
• كانت «خالتي مباركة» التي ترأست وفد رعاة سمامة إلى بلجيكيا محلّ تحية وتقدير الجميع وقد رقصت بخطوات الشباب وغنّت للحياة بحبور ودعت لتونس أن يحفظها الله بقلب خاشع...
• واكب افتتاح المركز الثقافي للفنون والحرف بسمامة جمهور غفير من ممثلي المجتمع المدني والضيوف الأجانب ووسائل الإعلام الدولية إلى جانب حضور وفد من مختلف وسائل الإعلام الجزائرية...
• رغم تقدّم سنة تحمّل الفنان الكبير نجا المهداوي مشقة السفر ذهابا وإيّابا في اليوم نفسه إلى القصرين تشجيعا منه لهذه البادرة التي وصفها بالرائدة والرائعة ...
• بمناسبة افتتاح المركز الثقافي الجبلي بسمامة وتزامنا مع شهر أكتوبر الوردي حلّت قافلة صحيّة من تنظيم ديوان الأسرة وإشراف الدكتور منير الجليطي لتكون في خدمة نساء الجبل.