والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل» هكذا علّمنا «ابن خلدون» أن العلم هو سلاح العقل للفصل بين الحقيقة والخرافة. ولكن لازال البعض في القرن الحادي والعشرين بهذا العقل يعبث ويستهتر وبالعلم يستخف ويستهين...
وفي الوقت الذي يستضيف فيه «بيت الحكمة» هذا السبت العالم التونسي بوكالة الفضاء الأمريكية مهدي البنّا في محاضرة بعنوان» إنسوية ارتياد الفضاء أو البحث عن الذات في تخوم النظام الشمسي»، تخصّص قناة تونسية برنامجا أسبوعيا يحمل تسمية «دنيا الفلك» ولكنه أبعد ما يكون عن علم الفلك وحركة الكواكب بعد الثرى عن الثريّا!
لعله من سخرية القدر أن تحتفل تونس بنجاح عملية زرع شريان حيّ بالمستشفى العكسري في إنجاز يعدّ الأول من نوعه في تونس والعالم في الوقت الذي يطالعنا فيه على شاشة أحد القنوات الخاصة رجل يصف نفسه بكبير الفلكيين وأشهر الحكماء الروحانيين يدّعي أنه يملك الدواء الذي عجز عنه الطبّ وبيده الشفاء الذي استعصى عن الأطبّاء!
«يأتيكم برنامج «دنيا الفلك» مع الأستاذ عمّار الورتاني كل مساء سبت ابتداء من الثامنة والنصف مساء على قناة تلفزة تي في. كونوا في الموعد» هكذا تدعونا هذه القناة إلى مرافقتها في برنامج يحيل عنوانه على علم الفلك بما هو دراسة لحركة النجوم والكواكب والمجرات والفضاء... ولو ارتبط هذا البرنامج بتوّقعات الأبراج وقراءة الطالع لهان الأمر فكل له حريّة الاعتقاد أو العمل بمبدإ «كذب المنجمّون ولو صدقوا»، غير أنه في الحقيقة ليس سوى إشهار مبّطن ودعاية مفضوحة لهذا «الأستاذ» الذي يعرف نفسه بأنه «عضو الإتحاد العالمي للروحانيين يعالج بالقرآن الكريم جميع الأمراض المستعصية، يزيل جميع أنواع السحر بإذن الله تعالى من مدفون ومأكول ومشروب ومشموم..».
وفي «دنيا الفلك» هذه التي غاب عنها الفلك والنجوم وحضر فيه الإستبلاه والضحك على الذقون نجد أن مقدّمة البرنامج والتي تتغيّر من حصة إلى أخرى تستقبل جملة من المراسلات التي تطلب الاستشارة والمعونة على عسر الأمور وتعطل الشؤون... فإذا بالأستاذ «العالم» يستطرد في التفاسير العبثية عن فعل «التابعة» وشؤم «العين» وأذى «الجن»... مشيرا إلى أن القرآن هو الحلّ لكل عقدة والدواء لكل داء ولكن بشرط !
هذا الشرط هو أن يقوم صاحب الإشكال أو المصاب بكل ما سبق من «أمراض استعصت على الأطباء» باللجوء إلى أهل الذكر والمختصين في الرقية الشرعية للتداوي بالقرآن حسب من ينعت نفسه بـ»عميد الفلكيين»... طبعا حتى يكون لهذه الآيات القرآنية ثمن وأجر يذهب من جيوب «المساكين» إلى الأرصدة البنكية لتجار الحلم وسماسرة الوهم !
هكذا هي حكاية برنامج «دنيا الفلك» الذي ورّط الإعلام في لعبته ليحيد عن وظائفه الرئيسية بما هي إخبار وتثقيف وترفيه... أليس من دواعي إحداث الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي البصري «الهايكا» التصدي لمثل هذه الممارسات حتى لا تكون القنوات التلفزية بوقا للشعوذة ومنبرا للسمسرة بالقرآن؟