حقيبة من الحكايات والذكريات عن درب طويل من الحبر والحرف، ومن وراء «دهاليز الليل» سار إلينا حاملا نبراسا من النور ليسبر لنا خفايا تجربته في ترويض القلم وصداقة الكتابة، ومن داخل «دار الباشا» فتح لنا أبوابا وأشرع لنا نافذة على الأدب والوطن والحياة. في لقاء على ضفة الأدب والقصة والرواية... كان لقاء الكاتب حسن نصر بقرّائه وعشاق كتاباته في دعوة واستضافة من «بيت الرواية» بمدينة الثقافة عشيّة الجمعة 21 سبتمبر 2018.
مع انبلاج فجر الاستقلال ، سطع نجم الكاتب الكبير حسن نصر ليتبوّأ المشهد الأدبي كواحد من أبرز ما أنجبت تونس من أدباء ومبدعين في فن نظم الحرف والكتابة. وقد كان التتويج حليفه في عديد المناسبات حيث فازت مؤلفاته «ليالي المطر» و»دهاليز الليل» و»السهر والجرح» بباقة من الجوائز، كما ترجمت له العديد من الآثار إلى اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنقليزية والروسية...
تونس أرض ظهور أوّل رواية
في العالم
في تقديمه لضيف بيت الرواية عدّد الروائي محمد الحباشة عناوين الأعمال التي أبدعها حسن نصر في القصة والرواية والمسرحية والمقالة معتبرا أن القيمة التي تجمع بينها هي الاشتغال على الهموم الاجتماعية والفردية وعلاقات الصراع مع الأنظمة الإمبريالية المتطرفة دون التخلي عن النزعة الوجودية... واستعرض محمد الحباشة ما قاله الدكتور محمود طرشونة في كتابه «أعلام الرواية في تونس» عن حسن نصر يقول في الشهادة التالية: «ومن هؤلاء الذين اعتصموا بمحراب الكتابة وتدربوا عليها يبرز حسن نصر الذي لا همّ له غير فن السرد قراءة وتأليفا، تقليدا وتجديدا، واقعا وخيالا... يكتب النص يروم منه فنا ورسالة في الآن نفسه إذ يرفض لزوم النص حدوده الفنية كما يرفض تبليغ أفكار لا يكون الفن سندا لها ورسولا».
بفيض من عبارات من الشكر والثناء أعرب حسن نصر عن سعادته باستضافته من «بيت الرواية» مشيرا إلى أن تونس هي بحق بيت الرواية وقد عرفت ظهور أوّل وأقدم رواية في العالم والتي حملت عنوان «الحمار الذهبي» وقد كتبها الأمازيغي «لوكيوس أبوليوس» أحد أدباء شمال إفريقيا في القرن الثاني للميلاد. وكشف الكاتب حسن نصر أن هذه الرواية المتأرجحة ما بين الواقعية والسريالية طالما شكلت مصدر إعجاب وإلهام في مسيرته الأدبية.
كتابات بطعم النضال وحبر الحرية
«أنشر شراعك للسفر عبر المدارات البعيدة... وأمضي إلى أقصى المدى» هكذا دعانا حسن نصر إلى مرافقته في رحلة العودة على الأعقاب عبر شريط الذاكرة إلى لحظات الكتابة الأولى وهو الذي عاشر السفر وعشق الترحال من بلد إلى بلد كما خبِر الانتقال من فن كتابة إلى آخر.
تحدث حسن نصر بشجن فاستمع إليه الحضور بشغف وهو يقول: «كانت الثورة الجزائرية على أشدّها في سنوات 57 و58 من القرن الماضي. وكنت أتابع أخبارها فأشعر بوجع في قلبي وأتأثر كثيرا بكل ما يجري من تعذيب وفظاعة في حق الإنسانية، فكتبت أوّل قصة قصيرة في حياتي عنوانها «دمعة كهل» وهي تصوّر استيقاظ الضمير الإنساني
أمام بشاعة التعذيب في الجزائر. كنت قد كتبتها على ورق كراس مدرسي وأرسلت بها إلى «مجلة الفكر» فنشرتها في عدد جانفي 1959 كما هي دون زيادة أو نقصان. فاكتسبت الثقة في نفسي وصرت أراسل المجلة في كل ما أكتب من قصص لما يزيد عن 8 سنوات. في الأثناء اشتغلت معلما ثم انقطعت وسافرت إلى بغداد للالتحاق بكلية الآداب وهناك نسيت كتاباتي وانغمست في دروس الجامعة. في 18 جانفي 1952 انطلقت الشرارة الأولى للثورة التونسية التي قادت إلى استقلال البلاد وفك أسرها من المستعمر الأجنبي. كنت في تلك الفترة أعمل أثناء العطل المدرسية في دكان «عم التهامي» المختص في إصلاح آلات الخياطة الواقع بباب بنات قريبا من باب سويقة. كان هذا الدكان قبالة مكتب المحامى الحبيب بورقيبة الذي بقي إلى اليوم، وإلى يسار الدكان كان يقع مكتب المحامي صالح بن يوسف الذي وقع هدمه في ما بعد اليوم، وفي النهج القريب تقع عيادة الدكتور الحبيب الماطري. في هذا المكان الذي يجمع ثلاثة زعماء من الحزب الدستوري التونسي في آن واحد وفي منطقة باب سويقة التي كانت في ذلك الوقت القلب النابض بالنضال والحياة قبل أن تنتقل الحركة الوطنية إلى المدن والجبال كنت شاهدا على المقاومة التونسية وقريبا منها مما كان له أثر وصدى في كتاباتي وسيّما في قصص «ليالي المطر».
أسرار الكتابة عند حسن نصر
كيف يكتب حسن نصر ولمن يكتب وكيف يكتب ؟ هل الكتابة موهبة أم تقنية أم تمرين حياة؟ يقارب حسن نصر هذه الإشكاليات فيقول: « لا يمكن للكاتب أن يكتب دون أن يكون قارئا جيدا وأن يكون عالما بما يجري حوله وأن يكون عارفا بالإنسان في صراعه مع الطبيعة ومع نفسه ومع أخيه الإنسان ... ودون أن يكون قد خبر الحياة بمرّها وحلوها، وفي مدها وجزرها... فالمواضيع ملقاة على قارعة الطريق في متناول الجميع لكن ينجح في الكتابة من يكون له حسه المنفرد وأسلوبه الخاص وأداته الذاتية وعينه الذاتية في مقاربة الأمور من زواية لا تشبه غيره. ولعلّي في هذا أعشق الرئيس بورقيبة لأنه يملك تلك النظرة الاستشرافية إلى الأمام».
وفي سرد لحكايته مع الكتابة من البداية وصولا إلى خط الشهرة، روى حسن نصر: «في سنة 64 كنت طالبا بكلية الآداب ببغداد عندما ترجمت قصتي «الثور الذي خلّفه أبي» إلى الفرنسية. وعدت بعد ذلك إلى تونس لأشتغل في التعليم الثانوي وانغمست في الحياة الفكرية والأدبية فشاركت في تأسيس نادي القصة وساهمت في بعث مجلة «قصص» التي لا تزال تصدر إلى اليوم و شاركت في بعث اتحاد الكتاب التونسيين. وفي سنة 1968 صدرت مجموعتي القصصية الأولى «ليالي المطر» عن الدار التونسية للنشر وحازت على الجائزة التشجيعية من وزارة الثقافة وبعدها صدرت روايتي «دهاليز الليل» وحازت أيضا على الجائزة نفسها من وزارة الثقافة وترجمت إلى الروسية، فتحصلت من الاتحاد السوفياتي على حقوق التأليف بما قيمته 700 دينار في القرن الماضي.
كما لا يمكنني أن أنسى ما خصّني به صلاح الدين بن حميدة مدير جريدة «العمل» في أواخر السيتنيات من القرن الماضي من تشجيع وقد أتاح لي فرصة الكتابة في الملحق الثقافي أسبوعيا تحت عنوان «قصة تقرأ في دقيقة» جمعتها بعد ذلك في كتاب أسميته «ليلة 52». إلى هنا اكتفي بهذا القدر ولا أريد أن أزيد أو أستعرض ولا أعدّد طيلة عمر بأكمله من هذا الفن هذا ما قد جمعت في حقيبتي وما قد كتبت... ولازلت أعمل وأكتب من أجل الرقي بهذا الوطن ولاشيء غير الرقي بهذا الوطن».
الأدب التونسي ومحدودية الانتشار
إذا كان حسن نصر من جيل المؤسسين الأوائل للأدب التونسي فإنه يتابع إبداعات الأجيال الجديدة وهو الذي صرح: « أقرأ كثيرا وقد يفوتني الكثير أيضا ولعل من آخر الأعمال الجديدة التي استحوذت على إعجابي الرواية الحائزة على جائزة الكومار الذهبي لخيرية بوبطان بعنوان «ابنة الجحيم». ولكن للأسف لا يوجد صدى للكاتب التونسي خارج حدود الوطن ولم نحقق بعد ذلك الصدى الذي فجرّه الروائي السوداني الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال» أو الشهرة التي حازت عليها روايات نجيب محفوظ... وفي هذا السياق ردّ حسن نصر على سؤال «المغرب» بخصوص مدى صحة هذا الرأي القائل بعدم انتشار الأدب التونسي والحال أن تونس قد حصلت على عديد التتويجات الكبرى على غرار حصول الروائي شكري المبخوت عن رواية الطلياني على جائزة «بوكر 2015» فكانت إجابته: «الجوائز» المرموقة لا تعني بالضرورة انتشارا واسعا وكم من مبدع نال جائزة عالمية لا يعرفه أحد ولا يقرأ له الكثيرون في المقابل كم من أدباء حفظ أسمائهم القراء بالرغم من عدم حصولهم على أي تتويج !».
بعد عمر من الكتابة وفن مخاتلة الكلمات لا يزال حسن نصر في شوق دائم للقلم وشغف لا يموت للورق فإذا به يستعد لإصدار رواية جديدة اختار لها تسمية «أبو بكر الشبلي صاحب الأحوال».