وأن العاصفة كالمرأة جديرة بالعشق والمغامرة... طالعنا حنامينه - وهو الذي فارق الحياة بعد أن ترك فيها ما لا يمحى من الأثر- بكبرياء الموج وصمود الجبل وغموض الغابة على شاشة الوطنية الأولى في حوار البوح والعمق والصدح بجرأة النقد والموقف...
«مهنة الكاتب ليست سوارا من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة»، هكذا قال لنا حنامينه وهو الذي أكد لنا أيضا في حواره من تونس بمناسبة حلوله ضيفا على ربيع الفنون بالقيروان أن «الثقافة هي الكنز الذي لا يفنى»...
حنامينه يصالح التلفزة مع جمهورها
في الأيام الأخيرة نجحت التلفزة التونسية في استرجاع بعضا من جمهورها إلى شاشتها واستعادة متابعيها الذين هجروها مكرهين لعطالة إنتاجها وكساد بضاعتها... وبعد أن لاقى إعادة بث مسرحية «غسالة النوادر» الاستحسان سيما وأن هذا العمل المسرحي الذي يرتقي إلى مرتبة المرجع بدا وكأنه يتحدث بلسان الحاضر وينطق بهواجس الآن وهنا، حصد بث الحوار النادر الذي أجراه الإعلامي حبيب جغام مع الروائي الراحل حنا مينه شيئا كثيرا من الإشادة والمتابعة وإعادة المشاهدة ...
لأول مرة بعد منعه من البث سنة 2000، حرّرت مؤسسة التلفزة التونسية حوار حبيب جغام مع الأديب الكبير حنا مينه من السجن في الأدراج المغلقة ليطالعنا الروائي الراحل على شاشة الوطنية الأولى في سهرة الاثنين الماضي في لقاء العمق والرقي على ضفاف الأدب وشواطئ الحياة. ومن هنا، رافقنا حنا مينه «في رحلة الأيام» واكتشفناه من القرب وتعرّفنا عليه من زوايا مختلفة: الإنسان والأب والأديب... فإذا بنا أمام قامة خالدة صنع البحر مسيرتها ونحت الصخر اسمها وهي التي استمدت من العاصفة الكبرياء ومن الطبيعة الثورة ومن المنفى الحرية...
قصة حبيب جغام ومحمد جغام... وحنامينه
تحدث حنامينه في حواره التلفزي بتونس عن الأدب والشعر والحياة والحب والموت ... ولم يعرّج على ما يقلق السلطة أو يستفز الحاكم، فلماذا تم منع الحوار من البث ولم يخرج إلى النور إلا بعد وفاة الضيف حنامينه؟
بهذا التساؤل توّجهت «المغرب» إلى الإعلامي حبيب جغام، فكانت إجابته: «من المضحكات المبكيات أن سبب المنع يثير الاستغراب والدهشة ... وفي عودة إلى الوراء، كنت قد قدمت لفائدة مؤسسة التلفزة التونسية سلسلة من الحوارات مع الشخصيات الثقافية منها مارسيل خليفة وحسين فهمي .. وأيضا مع الوجوه الرياضية على غرار صادق ساسي (المشهور بعتوقة) وطارق ذياب وغيرهم تحت عنوان «حوار تنقصه المجاملة». ولما تم تعيين مصطفى الخماري مديرا عاما للإذاعة والتلفزة واصلت تصوير خمس حصص تلفزية في شكل حوارات مع عدد من الضيوف منهم حنامينه وزبير التركي وزهيرة سالم... وكان لكل حوار أستوديو تصوير وديكور جديد لا يكرّران نفسيهما كما لا تتشابه الشخصيات التي أستضيفها في برنامجي الذي تغيّر عنوانه إلى «في رحلة الأيام». ولكن كان قدر هذه الحوارات أن تبقى حبيسة الصمت بسبب خلاف لا ناقة لي فيه ولا جمل بين قريبي الوزير السابق محمد جغام وليلى بن علي. وبعد انسحاب السياسي والدبلوماسي محمد الجغام من الحكومة، يبدو أن عبد الوهاب عبد الله قد أملت عليه نفسه أن يمنع بث هذه الحورات التلفزية التي كانت بإمضائي وأنا الذي تربطني صلة قرابة بمحمد جغام في استباق منه لغضب القصر أو سيّدة القصر !».
وكان لهذا الحديث الخاطف مع الإعلامي والمذيع حبيب جغام بخصوص أسباب منع بث الحوار التلفزي مع فقيد الرواية حنامينه شجون واستطراد ... إذ عاد بنا إلى حكايات مشابهة عن اجتهاد الحاشية في توليد التأويلات واستباق الاستنتاجات خشية غضب «القصر» من ذلك منع بث أغنية «الزين هذا لواش يا مذبلة الأرماش» للفنانة عليّة ظنا منهم أنها قد تشير من بعيد أو من قريب إلى زين العابدين بن علي ! كما روى محدثنا أنه تم منع بث أغنية مبروك التريكي التي تقول كلماتها:» يطول عمرك يا أمّيمة يا حنينة وتعيش يابا وتنوّر علينا» بحجة أنها غٌُنيت في عيد ميلاد بورقيبة وأن الأم هي وسيلة والأب هو بورقيبة ! ومما ذكر المذيع حبيب جغام أنه تم إقصاء أغنية «يا ناجح جيت نهنيك» لزهيرة سالم من البث تأويلا منهم أن هذا الناجح هو بورقيبة وقد تغضب الأغنية بن علي !
ولنا أن نتساءل كم اغتالت مثل هذه الحكايات العجيبة والغريبة من إبداع وقتلت من فن ودليلنا في ذلك الحوار الرائع مع الروائي الكبير حنامينه الذي أحيل إلى القبر لسنوات طويلة دون ذنب ولم يبعث إلى الحياة إلا بعد رحيل بطله !