التعيس الذي قادها إلى الموت حرقا! هل يوجد أبشع من صورة كتب تُغتال في محرقة من صنع خالقها وباعثها إلى الوجود!؟ وكيف لكاتب أمضى العمر في رصف السطر تلو السطر ورتق بياض الورق بخيوط من الفكر والسهر أن يحرق بنفسه كتبا من تحبير يديه!؟
في الساعات الأخيرة، قام الكاتب والناقد محمد المهدي الدالي بحرق مجموعة من كتبه في حركة وصفها بالرمزية احتجاجا على تهميش المثقف وتجاهله خصوصا في الولايات الداخلية وتحديدا في جهة قفصة.
عندما تغتال الكتب على يد أصحابها !
يعج التراث العربي الإسلامي شأنه شأن بقية حضارات العالم دون استثناء بحكايات مؤلمة عن حرق الكتب وإتلاف عصارة الفكر واغتيال شواهد الإنسانية لأسباب سياسية وأيدلوجية ودينية... وكما التهمت النيران كتب ابن حزم وابن رشد والغزالي ... بأمر من الحاكم بأمر في البلاد، فللأسف جنا بعض العلماء والأدباء على كتبهم بأنفسهم ربما لأسباب نفسية وذاتية. فقد أحرق أبوحيان التوحيدي كتبه بنفسه لأنه لم يلق من التقدير والاحترام ما كان ينتظره، وأحرق عمرو بن العلاء كتبا عانقت سقف بيته بعد إعلان تنسكه، وأغرق أحمد بن أبي الجواري ثروته من الكتب في النهر، وأوصى أحدهم بدفن كتبه معه بعد موته... وهكذا ضاعت ملايين الكتب هباء بضربة إقصاء أوغباء!
ولعلّ ما يبرر العودة إلى كل هذه المعطيات التاريخية والاستشهادات التوثيقية عن عصور آفلة هو حدوث حكاية مشابهة في القرن الحادي والعشرين. ففي ولاية قفصة أقدم ابن الجهة الكاتب وأستاذ التاريخ والجغرافيا والناشط السياسي والنقابي محمد المهدي الدالي على حرق نسخ من كتابه الأخير احتجاجا على الصعوبات التي يواجهها الكاتب في نشر مؤلفاته والترويج لأفكاره... وقد وثق الناقد محمد المهدي الدالي هذه اللحظة «المازوخية»، المتلذذة بعذاب الذات في فيديو بالصوت والصورة مبرّرا هذا السلوك بالقول: «هي حركة احتجاجية رمزية أردت توظيفها لتمرير عدد من الرسائل منها الثقافي والاجتماعي والتاريخي... وللتعبير عن هموم قد تكون شخصية ولكنها تهم كل البلد».
إعلان مقاطعة الكتابة على «نخب النار» !
كان مسرح «واد بيّاش» بقفصة مسرحا لحادثة حرق الكاتب محمد المهدي الدالي لكتبه وقد كان لاختيار هذا المكان أكثر من دلالة حسب «مقترف» الواقعة الذي تلا قبل تنفيذ العملية خطابا عنونه بـ «سأموت واقفا كالنخلة» وبوّبه إلى رسائل شكر وعتاب ونصح واعتذار وترحم وتضحية.
وقد قال محمد المهدي الدالي: «أشكر كل من دعمني ماديا أو معنويا لإصدار كتابي الأخير والمتمثل في المجموعة القصصية «سجال». وأشكر صاحب المطبعة شوقي قطيف الذي صبر كثيرا في انتظار دفع مصاريف الطبع وكذلك أشكر الأوفياء من تلاميذي القدماء.
أعاتب كل من اقتنى كتابي الأخير بذمة الشراء وليس الإهداء -لأني أهديت بالملايين- ولم يسدّد ثمن النسخة التي لا يتجاوز ثمنها علبة أو اثنتين من السجائر. وهم أفراد ومنظمات ومؤسسات...
أنصح كل من تخامره فكرة الكتابة أن يتجنب النشر على حسابه الخاص لأنها مغامرة غير محمودة العواقب.
أعتذر لشخصيات خيالية كنت قاسيا عليها مثل كتّاب وماكرة وهنّاد ... التي جعلتها تنهزم لكن كنت واهما، فالعصر عصرها والنصر نصرها.
أترّحم من هذا المكان الرهيب وهو «واد بيّاش» الذي تحاصره القاذورات والأوساخ وزراعة النخيل بغباوة مفرطة على زملائي التلاميذ ممّن جرفتهم أمطار هذا الواد يوم 12 ديسمبر 1973 لتنعى قفصة في هذه الحادثة المؤلمة أكثر من 50 تلميذا وعون أمن وسائق جرافة. يومها شاركت في مظاهرة حاشدة وأنا تلميذ لا أتجاوز 15 عاما مما دفع بالحكومة إلى تشييد قنطرة تحمي البلاد من خطر الواد.
أضحي بما في حوزتي من نسخ كتابي الأخير «سجال» عن طريق الحرق وقد اخترت هذه الطريقة للاحتفال نعم الاحتفال بمقاطعتي للكتابة والتأليف...».
ليس «بوز» بل صرخة فزع
يطرد الكاتب محمد المهدي الدالي كل تأويل من شأنه أن يصف ما أقدم عليه من حرق لكتبه بأنه بحث عن «البوز» وإثارة الانتباه قائلا: «قد يتوّهم البعض أني أبحث عن «البوز» ولكن أبدا ليس لي مثل هذا الغرض فيكفيني أني وجه معروف ثقافيا وتربويا ونقابيا على الأقل جهويا في قفصة. بل اخترت هذه الطريقة بالذات لأطلق صيحة فزع بخصوص التراجع الكارثي لمعدل المطالعة في بلادنا و العزوف عن القراءة في بلد أصبح الكل يفتي فيه في التاريخ والسياسة والدين وكرة القدم ...».
إن أثارت حادثة حرق الكاتب محمد المهدي الدالي لكتبه بيده حفيظة الكثيرين ممن أدانوا رجل القلم الذي اغتال حروفه بنفسه باعتبار أن حرق الكتب مرفوض مهما كان السبب، فقد تعاطف معه البعض ممن وجدوا له عذرا في زمن محنة المثقف وأزمة الكتاب !