في العرض الأول للكوميديا الموسيقية «مملكة الحب»: شرع الحبّ يهزم شريعة الغاب

على الركح تجلّت «مملكة الحب» ليكون فيها الحب هو الشرع والشريعة والجسد هو الخصم والحكم... في انتصار للإنسان واعتقال لأذناب الرجعية

والتخلف والمجتمعات الذكورية. وقد احتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة مساء الثلاثاء 19 جوان 2018 العرض الأول لهذا العمل الفرجوي الذي جمع ما بين المشهدية المسرحية والمساحات الموسيقية في ثنائية من توقيع الفنانة منية البجاوي والمخرج طاهر عيسى بن العربي.
في إغراء حبّات الكرز بحمرتها الفاقعة وكبريائها الملوكي وحلاوة مذاقها... جاء العرض المسرحي الموسيقي «مملكة الحب» أو cerises مستفزا للإحساس والحواس وهو الذي استعار من هذه الثمرة الجميلة والمثيرة العنوان والملامح والحكايا... 

عودة منية البجاوي من باب المسرح
حوالي 10 سنوات من الغياب هجرت فيها منية البجاوي الركح واختفت عن الأضواء... ليرمي بها عشق الغناء مجددا على أعتاب الفن. ولكن ما بين الأمس واليوم تغيّر الكثير وتبّدل الجمهور وفي عصر الرداءة واستسهال الفنّ والنجوم من ورق لم يعد حظّ الطرب كما كان !  ويبدو أن هذه الفنانة رسمت بذكاء طريقتها في العودة إلى الظهور وراهنت على النجاح ورجع الصدى من خلال نفض الغبار عن ذاكرة مثقلة بالذكريات والأغنيات... فهرعت إلى المسرح لتطلق صوتها وتحرّر حنجرتها في حضرة أب الفنون.

على درب الإبداع التقت الفنانة منية البجاوي مع المخرج طاهر عيسى بن العربي ليشكلا ثنائيا فنيا على خشبة «مملكة الحب» في تقاسم للأدوار وتكامل في المهام، فكان منها الغناء وكان منه تصميم لوحات كوريغرافية على مقاس الأغنيات والنغمات...

في «مملكة الحب» أطلّت منية البجاوي بصوت طربي وثوب أحمر بكل ما يحمله هذا اللون من عاطفة وثورة وما يحيله من دلالات وفاء إلى عنوان العرض لتصافح جمهورها بعد غياب بباقة من ورود الأغنيات على غرار «همس الموج»، «مشتاقة» ، «في أمان الله سافر»... كما صدحت حناجر بقية الفنانين في «مملكة الحب» بأحلى الأغاني لرواد الفن التونسي إعلاء لراية الشعر والشعور.

إن انتعل عرض «مملكة الحب» حذاء الموسيقى ولوّح بوشاح المسرح فإنه لم يكن مجرد كوميديا موسيقية بقدر ما كان تعرية جريئة لعقد المجتمعات غير المتصالحة مع أجسادها ومواجهة صريحة مع العقليات المتحجرة التي تتشدّق بالفضيلة وهي غارقة في الرذيلة. وهكذا استحال الركح إلى غرفة عمليات لاستئصال أورام النفاق والانفصام والشقاق... بمشرط الفن حتى تحكم المجتمع شريعة الحب.

ذكورة زائفة وأنوثة ثائرة
كما يتسع الحب لكل العشاق و لا يفرّق العشق بين الألوان والأعراق... فلم تحتكر «مملكة الحب» الركح بل سمحت للمتفرجين بالدخول في اللعبة المسرحية وعدم الاكتفاء بدور الفرجة. لقد أراد المخرج ظاهر عيسى بن العربي أن يوّرط الجمهور في القضية ليرج فيه المسلمات والأحكام المسبقة والاستسلام للسائد وسحق حقوق الأقليات... في هذا العرض الذي اختار أن ينتسب إلى مدرسة «المسرح التفاعلي» تعدّدت الأركاح وتلاشت الحدود بين الممثلين والمشاهدين وخلقت السينوغرافيا مناخا حميميا بين الجمهور والفنانين في بوح بلا قفازات ولا أقنعة عنّا، عن ذواتنا، عن أجسادنا...

في «مملكة الحب» غنّت النساء كالفراشات ورقصت حواء لتنفض عنها تهمة الخطيئة الأولى ولبست ألوان الفرح وقبلت في كبرياء وخيلاء خدّ الحياة ... أما الممثلون من الجنس الرجالي فقد كان ظهورهم قاتما كلون ملابسهم وحضورهم رهين زهو بذكورة كاذبة وانتشاء بفحولة زائفة يعرّيها جبن الموقف وقبح التصرف... فكانت المرأة بصدقها وصمودها وجمالها هي الأحق والأجدر بأن تكون الملكة وتلبس تاج «مملكة الحب».

اشتغال فنّي على «الجنسانية»
في تقاطع بين الشخص والشخصية، الذاتي والموضوعي، المسرحي والغنائي... تدور «مملكة الحب» في فلك الحب وتتخذ من «الجنسانية» المنطلق والمنتهى .

وإن تعرّف الجنسانية  بأنها «أحد جوانب الإنسانية الملازمة للإنسان مدى الحياة. وهي تجمع ما بين الجنس، الهوية النوع-اجتماعية، الدور، التوجه الجنسي، الإروتيسية، المتعة، الحميمية، والإنجاب». فقد فكك عرض «مملكة الحب» هذا المفهوم بما يخترنه من أفكار ومعتقدات ورغبات وعلاقات... عن طريق رسم لوحات كوريغرافية وصور مشهدية حبلى بالفنّ ومغرقة بالرمز.

في «مملكة الحب» فضح الفن أمراض المجتمع المزمنة وهو الذي يحاكم الحب باسم الشرف ويختزل المرأة في غشاء بكارة ومتعة فراش ويسلط البوليس رقيبا على الحريات الفردية والحياة الشخصية... مقابل التغافل وإغماض العيون وصمّ الآذان عن هموم الوطن وشقاء الشعب وهواجس المواطن في مواجهة فقر وإحباط وجشع بورجوازي وتعلّق مرضي بالكراسي... ولأننا نعيش أزمة حب ونعاني من إفلاس قيمي وخواء ثقافي فقد يكون الحل في اللجوء السياسي والعاطفي إلى «مملكة الحب».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115