فقد تكون الرحلة بلا إياب وفي جوف البحر يموت النحيب وتلوّح الحياة بيد الغياب. لم يكن ذنب البحر الذي قذف بجثثهم لتعود إلى أهاليهم منتفخة بمياه ملُوحة العذاب و بأحلام وئدت وهي في المهد، بل كان ذنب سماسرة الموت في متاجرتهم بالأوهام وانتهازهم للآلام فيستحيل عندهم الإنسان إلى رأس مال لا يهم إن عاش أو مات! لم يكن ذنب اليّم الذي لم يطاوعهم في اختلاس السفر ووهم المصير بل كان ذنب حكومات تناست وعودها ومسؤوليتها تجاه مواطنيها ورؤساء اشتروا بالدولار الغراء حتى يلتصقوا بالكراسي فلا يفارقونها حتى لمجرد واجب العزاء!
لكن من باب الأمانة علينا أن نذّكر بأن حكومتنا برعت في إنجاز لا يشق له غبار... إنه قرار بعث «خلية أزمة» في كل مرة تنزل من هذا الوطن دمعة وتدوي في سمائه صرخة لوعة. عند البرد القاتل، عند الثلج العازل، عند المطر الجارف، عند الحريق الرهيب، عند الموت الجماعي غرقا... تتناسل خلايا الأزمات من أجل المهمة الدقيقة والمتابعة اللصيقة ولكن بعد حلول الفاجعة !
في هذا السواد والبؤس والخراب في بلد ضاق فيه الأفق كان «لنا الفن كي لا تميتنا الحقيقة». وكثيرا ما انخرط الفن في الهم الجماعي فتناول مأساة الهجرة السرية محللا لدوافعها، باحثا في الخيط الرابط بين أسبابها ونتائجها، محذرا الحكومات والأفراد من الكارثة .
وفي محاولة للرجوع إلى الأعمال الفنية التي تناولت ظاهرة «الحرقة» في السنوات الأخيرة، فقد أدلى المسرح بدلوه في الموضوع على غرار مسرحية «حارق يتمنى» لرؤوف بن يغلان ومسرحية «الباش» لصالح بن حمودة ومسرحية «ترى ما رأيت» لأنور الشعافي ومسرحية «الشقف» لسيرين قنون ومجدي أبو مطر ... وفي السينما لم تغفل شاشة الفن السابع الاهتمام بظاهرة الهجرة السرية في شكل مشاهد جزئية وإشارات ضمنية أو من خلال إفراد الفيلم بأكمله للتطرق إلى هذه المعضلة المتواصلة رغم أنها تكون مرفوقة بشبح الموت فكان آخر هذه الأفلام «شرش» لوليد مطار وفيلم «وراء الموجة» للمخرج فتحي السعيدي وفيلم «ولدك راجل» لهيفل بن يوسف... ولكن يبقى الاختلاف والتميز لفيلم «بنزين» لسارة العبيدي لأنه تناول هذه المسألة المؤرقة ليس من زاوية الشباب الحالم في مستقبل أفضل وجه عدسة الكاميرا عكسيا من خلال رصد معاناة عائلات الضحايا والمفقودين من الهاربين على قوارب الموت.
ومن الطبيعي أن تكون «الحرقة» مشروع أغنية خصوصا عند أهل الراب لأنها تعكس هاجس شباب من محيطهم وبدورهم غنى الفنان الشعبي طارق الغزولي عن الهجرة السرية لكن لا أحد كان يعلم أن هذا الشباب من ولاية مدنين كان يرثي نفسه في هذه الأغنية عن «الحارق المهاجر للأوطان» قبل أن يعلن عن اسمه في الساعات الأخيرة في عداد الموتى من ضحايا مركب قرقنة بعد أن تكسر بهم حلم الوصول إلى الضفة الأخرى.
قد يثير إقدام هذا الفنان على ركوب موج الخطر الاستغراب باعتبار أن رجل الفن مهمته هدهدة الحلم وزرع الأمل ونثر بذور الجمال من حوله... فكيف له أن يغتال فيه هذا الإحساس ويهجر الوطن؟ لكن الفنان يبقى إنسانا قد يسوّد في عينيه الأفق وتنسد أمامه الطرق في بلد تداس فيه حقوق المواطن كما الفنان الذي يتخبّط في وضعية اجتماعية واقتصادية هشة.
هم ماتوا... وسماسرة الوهم قد قبضوا الثمن والحكومة ألهتها الكعكة عن المصيبة. وحدها الدموع لن تموت في مقلتي الثكالى... ووحده صدف البحر سيحمل رسالة الغريق إلى الرفاق بألا يسلكوا هذه الطريق وألا يتبعوا بصيص أمل محفوف بهلاك الغرق.