في يوم بدر يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ الأنفال: 41 يوم فرَّقت بين الحق والباطل، بحولك وقوتك، وتأييدك ونصرتك، وتثبيتك ورعايتك، وقلتَ وقولُك الحق إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الأنفال: 12.
وكانت واقعة بدر هي الفيصلَ بين الحق والباطل، بين النور والظلمة، بين كتائب الخير وجحافل الطغيان، وكان ذلك في رمضان.
لقد شاءت إرادتك -ولا راد لمشيئتك- أن يكون امتحانك للمؤمنين الصابرين صعبًا عسيرًا، لا يجتازه إلا كل من طهرت نفسُه، وعمر قلبُه، وآمن بصدق الرسالة، وعاهَد رسولَك على حمل الأمانة، وكان يوم الامتحان يوم بدر في رمضان.
وشئتَ -جلَّت قدرتُك- أن يكون الامتحان جهادين: جهادًا في سبيلك، وجهادًا ضد النفس. وكان الامتحان أقوى ما يكون الامتحان، وكان نصرك أكبرَ ما يكون النصر؛ لأنك علمت: صدق النوايا، وطهارة النفوس، ومضاء العزيمة، وانتصر المسلمون بتأييدك في رمضان؛ لأن النصر من عندك.
لقد ألهمتَ نبيَّك ورسولك -تحقيقًا لإرادتك، وتنفيذًا لمشيئتك- أن تكون الواقعة في رمضان؛ لكي يرد اعتبارَ المسلمين المهاجرين، الذين اشتروا رضاءك، وآمنوا بدعوة نبيِّك، وتركوا أملاكهم وأمتعتهم، وخرجوا من ديارهم طائعين؛ فكانت هذه الواقعة ردًّا على قُوى الشر الباغية، التي لا تجد مَن يَردَعها أو يَقبُرها، وكان ذلك في واقعة بدر، في رمضان.
وفي ليلة بدر، ألهمت محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نبيَّك ورسولك، بما سيحدث، كان يضع يده على الأرض قائلاً: «هذا مصرع فلان -من المشركين- إن شاء الله غدًا»، ثم يضع يده على جزء ثانٍ من الأرض قائلاً: «هذا مصرع فلان، إن شاء الله غدًا»، ثم يضع يده على جزء آخر من الأرض ويقول:«وهذا مصرع فلان، إن شاء الله غدًا».
فوعزَّتك وجلالِك - يا مَن بعثته بالحق شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا - ما أخطؤوا تلك الحدودَ، ولا جاوَزوا تلك المواضع، بل جعلوا يصرعون عليها، واحدًا بعد واحد، بل شيطانًا بعد شيطان، وألقوا في حفرتهم، وأقبل عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يناديهم بأسمائهم، ويقول لهم: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؛ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًّا؟»، فقال له بعض صحابته: «أتكلم أجسادًا لا أرواح فيها؟»، فأجاب: «ما أنت بأسمعَ منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يردُّوا علي»، وصدق تنزيلك المجيد: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى النجم: 3، 4
وفي يوم بدر، في رمضان، التقى الجمعان، وكانت قريش بخيلها وخُيَلائها، وشبابها ورجالها، وسلاحها وعَتادها، وزهوها وكبريائها، وفي ألف من عددها: منهم شاكي السلاح، كامل العدة، وخرج محمد - عبدك ورسولك - في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فقط، ينقصهم السلاح والعتاد، ولكن الإيمان يملأ قلوبهم، والمضاء يغمر عزيمتهم،ورغم قلة عدد جندك المسلمين، فقد غلَبوا بإذنك الكثرة من الكافرين، وصدق قولك - جل شأنك كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ البقرة: 249
وفي يوم بدر، في رمضان، التقى الجمعان؛ فظهرت القيم والمبادئ، وعُرِفت -يا رب- معادن الرجال المخلصين لمبادئ دينهم، وتعاليم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - الذائدين عنها، الفانين في سبيلها، الراغبين فيما هو أغلى من الدنيا، وأبقى من أيامها، الآملين فيما عند الله، وما عند الله خير وأبقى.
وفي يوم بدر، في رمضان، التقى الجمعان، فماذا كانت النتيجة؟
لقد فتحتَ - يا رب - عليهم أبوابَ رحمتك، وأسبغتَ عليهم جزيل نعمتك، وكان هذا اليوم فتحًا مبينًا، رجعوا بالنصر والغنيمة، والأجر والمثوبة: ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا النساء: 70
لقد كنت مع جندك المسلمين، الصابرين - في رمضان - يدُك فوق أيديهم، فبينت - جلَّت قدرتك - الحدَّ الفاصل بين الكَذَبة الأدعياء، المتفاخرين بالباطل، المجتمعين على الإثم، وبين المؤمنين بربهم ودينهم، الواثقين بنصر خالقهم، الموقنين بأن الله معهم: يوفقهم، ويدافع عنهم، ويبطش بعدوهم، قلتَ - وقولك الحق فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ الأنفال: 17.
ما أحوجنا إلى قراءة تاريخ ديننا الإسلامي الحنيف!
ما أحوجنا إلى أن نتذكر أيام إسلامنا، أيام نصرنا!
ما أحوجنا إلى أن نتبصَّر ونتذكر، ونخلص النية في الاقتداء بأهل بدر: في الثقة، والإيمان، والوفاء؛ ليكون لنا كما كان لهم يوم الفرقان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الأنفال: 29.