تدور حول نفسها وتدور إلى حد الانتشاء فالإغماء. ومن الاعتكاف في الزوايا إلى التجلي على المسارح، أصبح للموسيقى الصوفية عنوان معلوم في كبرى المهرجانات ومكان محجوز في قلوب الجماهير... فلم يكن من الغريب أن تكتظ مقاعد قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة بالجمهور المتعطش لعرض «الحضرة 3» لصاحبه فاضل الجزيري ضمن فعاليات مهرجان المدينة في سهرة الخميس 25 ماي 2018.
في الحضرة3» كان الموعد مع أناشيد تختال النشوة مابين صوت خفيف وثقيل ، تهويد وترخيم، حب وهيام، رقص ووجد...
وتر... وذكر... وسفر
أعلام بألوان صارخة في حركات صاخبة تستفز البصر وتدغدغ الإحساس... كانت فاتحة المشاهد في عرض «الحضرة 3» لتتالى بعدها اللوحات الكوريغرافية على إيقاع آلات موسيقية اختلفت هويتها ومرجعياتها لكنها اتفقت على أن الانتشاء هو المنتهى.
في حضرة «الحضرة 3» خيّم السكون وعمّ الخشوع وانتشت الأرواح ورقصت الأفئدة لتتمايل الأجساد مع المدائح النبوية والإنشاد الديني ... وقد سلبت نفحات الذكر الألباب وسرقت الأرواح من قيد المكان والزمان لتحلق في سماء الوجد بلا حدود وتسبح في ملكوت العشق الإلاهي.
على ركح مدروس الإضاءة والتوضيب والأبعاد، اجتهد حوالي 100 عنصر من منشدين وعازفين وموسقيين وعازفين وراقصين... في خلق الفرجة ضمن حلقات ذكر جماعية في رمزية إلى التلاحم الروحي الذي يجمع أتباع «الحضرة» وأيضا من خلال وصلات فردية عذبة السماع وسط خشوع المجموعة. وقد كان الجمهور على موعد مع 26 أغنية من الأوراد والقصائد منها ما هو قديم أحبه الجمهور وتفاعل معه حد الانسجام والتماهي ومنها ماهو جديد مبتكر ... فكان السفر مع «اليل زاهي»، «خمر يا الخمار»، «رايس الأبحار»، «جد الحسنين»، «هو هو»، «على الله دلالي»، «حضرتش الدالة»...
الجسد يرقص... الجسد حرّ
كانت التخميرة عنوان «الحضرة3» بما هي انتشاء روحاني بالموسيقى وسكر بإيقاع الآلات الموسيقية المحرضة للجسد على الرقص والتحرر ... في سعي دائم إلى معانقة أقصى مراتب الوجد الصوفي.
على ركح هذا العرض الموسيقي الصوفي انسلخت الروح من ربقة الجسد لتحلق بعيدا في عالم غير محسوس أين سكون الصفاء ونور الجمال اللامتناهي لترسم حركات مبهرة على إيقاع ضربات الطبل وعزف الكمنجة.
وقد استدعت «الحضرة3» الجمهور إلى مشاركتها التخميرة، فكان التمايل والتصفيق والرقص... وقد نسي بعض الجمهور المكان والزمان فانغمس بكل حواسه وإحساسه في رحلة موسيقية من الروحانيات المسافرة إلى سماوات بعيدة.
«الحضرة3» بين القديم والجديد
أكثر من عقدين، لا تغيب «حضرة» فاضل الجزيري عن الأركاح والمسارح والجمهور. فإلى أي مدى حضر التجديد في «الحضرة3»؟
باشتغاله على منظومة الألوان ومعانيها وشفراتها، حاول المخرج فاضل الجزيري أن يكون مجددا في «الحضرة 3». كما سعى إلى استحداث أساليب جديدة في موسيقاه ولوحاته الكوريغرافية وسيماته السينوغرافية...
كانت مفاتيح صنع الفرجة في «الحضرة 3» تعتمد على خيار المزج بين الوفاء إلى الأصل وإضفاء لمسة من التجديد. وقد تجلى ذلك خصوصا في دمج آلات الموسيقى الصوفية التقليدية من دف وطبل مع الآلات الإيقاعية المتطورة. فلم يكن اللقاء على الركح ما بين البيانو والعود والساكسو والباتري... نشازا بل خلق شيئا من الألفة بين هذه الآلات كما ربط جسور التواصل بين الأجيال والموسيقات.
ولم يخف فاضل الجزيري نيته من خلال هذا التجديد في عرض «الحضرة3» أن يكون قابلا للترويج خارج تونس انطلاقا من الهوية الموسيقية المحلية للوصول إلى العالمية.