في «24 ساعة مسرح دون انقطاع» بالكاف: «عفوا أبي» موندراما ليبية عن هموم عربية

كثيرا ما كانت الحيرة ترافق جمهور «تظاهرة 24 ساعة مسرح دون انقطاع» بالكاف في اختيار العرض

الذي سيتابعونه في ظل زخم من الفقرات والمسرحيات في القاعات وفي الهواء الطلق. وأمام قاعة «نور الدين عزيزة» التي احتضنت العرض الليبي «عفوا أبي»، كان التردد في الدخول سمة بعض الحضور وهم يتساءلون ماذا عساه أن يقدم المسرح الليبي في ظل انتكاسة سرقت منه الإشعاع والإبداع؟ ولكن ما بعد الخروج من العرض، كانت المفاجأة السارة بأن المسرح الليبي لازال يحمل بذور العطاء والنماء بالرغم من الألغام المزروعة على خشبته...
من الاكتشافات الرائعة في تظاهرة “24 ساعة مسرح دون انقطاع” بالكاف هي العرض المسرحي”عفوا أبي” من ليبيا الذي يسافر لأول مرة خارج الأراضي الليبية. وكانت هذه المسرحية لوحة حيّة بجماليات فنية عالية عن واقع المواطن الليبي والإنسان العربي المهزوم ما بعد ثورات الربيع العربي.

إبداع بلا حدود في الأداء
إن كان ما تبّقى من آثار مسارح في ليبيا شاهدا على تاريخ بلد عرف المسرح منذ قديم التاريخ، فقد تجاوز المسرح الليبي في شكله المعاصر المئوية لكن بركح مهزوز وستار ممزق بسكاكين الأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة... لكن كان الاستثناء مع موندراما “عفوا أبي” من إنتاج مسرح الغد بمدينة البيضاء الليبية وتأليف الراحل علي الجهاني وإخراج عز الدين المهدي وعبد السيّد آدم وإعداد وتمثيل عبد الباسط الجارد.

على الركح، صعد الممثل عبد الباسط الجارد في موندراما “عفوا أبي” ليقف على أطلال منزله الذي كان بالأمس جميلا وآمنا بدفء أهله فإذا بقذيفة تهدم البيت والأحلام لتبقى الذكريات وحدها حيّة في ذهن أب فقد أسرته في محاولة فرارهم من منزلهم الذي تحوّل إلى حطام فإذا بهم يلقون حتفهم في الطريق ولا ينجو إلا الأب !
وقد أبدع الفنان القدير عبد الباسط الجارد في تقمص الدور إلى حدّ الانصهار وتصفيق الجمهور الحار ، فأضحك الجمهور في ضحكه الأسود وأجبره على البكاء وهو يتحدث عن مأساة الإنسان الذي طحنته الحرب ولوّنت حياته بالدم والدمع...

دم ودمع ... ما ذنب الإنسان؟
كانت موندراما “عفوا أبي” بمثابة الرّجة التي هزّت فينا مشاعر القهر والغبن والحزن على مجتمع يتقاتل أبناء شعبه الواحد ويتنافر أبناء شماله وجنوبه ويغتال الفرح في يد مخضبة بالحنّاء... ومن أكثر اللحظات تأثيرا في العرض، ذلك المشهد والأب يلملم شتات أعضاء جسد زوجته وابنتيه المتناثر شظايا ويد ابنته المخضبة بالحناء غارقة في الدم وذنب الإنسان... حتى أنه لم يعد هنالك مكان آمن سوى في القبر!

في «عفوا أبي» غاب الاستسهال وحضر الإبداع فوق ركح يضج بالفن في جلّ مكوناته وعناصره... فكان الديكور حمّال دلالات ومعان سيما ذلك القفص بلا عصفور المعلق على بقايا جدار وذاك الكرسي الذي قد يستحيل في بعض الأحيان إلى قضبان. كما جاءت الموسيقى والمؤثـــــــرات الصوتية محرضة على التأويل والتأمل في شجون الفنان وهواجس الإنسان.
وقد انساب النص الدرامي في مرونة، ليكون رسالة قوية على أن الاختلاف في الملل والنحل والقبائل... لا يفسد للوّد قضية طالما أنّ الحب هو الغاية الأسمى.

اعتذار الأبرياء عن جريمة الآباء
عن وطن مهزوم ومواطن جريح ، كانت موندراما «عفوا أبي» صورة مجسدة لاقتتال شعب انتهازي أدمن التصفيق للحاكم واللهث وراء المصلحة الخاصة ... كما كانت مشهدية مختزلة لمآل ليبيا والوطن العربي عموما ما بعد ثورات الربيع العربي التي عصفت بالاستقرار وأيقظت مارد الشرّ والحرب... وقد احتفظت المسرحية بقدر من التشويق إلى الآخر ولم تحرق كل أوراقها حتى النهاية. فبعد أن ظن بطل المسرحية أن ابنه الشاب قد نجا من القصف بعد أن وجد أن «بيت الراحة» هو المكان الوحيد الذي لم تدمره القذيفة، فخال أن ولده «عصام» مختبئ فيه كعادته دوما في الانزواء بهذا المكان في حالة الغضب... كشف الستار في المشهد الأخير من المسرحية على مشهد انتحار الشاب شنقا ! وهكذا مات أمل الحياة الأخير في قلب الأب المهزوم... 

وهنا، تتجلى دلالة العنوان «عفوا أبي» كمعنى اعتذار رمزي من الأبناء لآبائهم المُصرّين على استمرار الحرب والعداء فيما بينهم متناسين مستقبل أبنائهم و مصير أوطانهم...
في «عفوا أبي»، كانت الدعوة الملحة بضرورة تحرّر الجيل الجديد من القيود السياسية التي يفرضها الآباء من أجل بناء ليبيا جديدة قائمة على المصالحة بين جميع أطيافها... حتى يعيش الإنسان بأمان.
«عفوا أبي» ليست مجرد مسرحية بهوية ليبية بل هي تستوعب واقع الإنسان المغلوب على أمره في حالة حرب تدور رحاها لتلتهم الكل سواء كانوا مذنبين أو ضحايا، مجرمون أو أبرياء... إنها الصراعات الخرقاء في الأوطان العربية الحمقاء!

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115