في مسرحية «أخطى راسي...» بفضاء التياترو: الصمت خيانة والتواطؤ جريمة... والوطن ليس للبيع!

كانت مسرحية «أخطى راسي وأضرب...» تراجيديا مبكية في ثوب كوميديا سوداء،

قد تسرق منّا لبرهة لحظة من البسمة في غفلة من الزمن ولكنها تترك في القلب وجعا على وطن يئن ألما لأنّ أولاده أوجعوه وخانوه وباعوه... إنها الحرائق التي تندلع بفعل أياد آثمة في بلدنا من حين إلى آخر، فتأكل الغابات والمساحات الخضراء والمصانع والموانئ ومبيتات تلاميذ المناطق النائية... لغايات دنيئة وأهداف رخيصة. وقد يتحوّل الصمت والجبن والتواطؤ حطبا لهذه الحرائق في مسرحية «أخطى راسي ...» من إنتاج فضاء «التياترو» والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وسفارة سويسرا في تونس.
«أخطى راسي...» مسرحية من إخراج نوفل عزارة ومساهمة فنيّة لتوفيق الجبالي في اقتباس من مسرحية «السيّد ومشعلو الحرائق» للكاتب المسرحي السويسري ماكس فريش. ويلعب أدوار هذا العمل المسرحي كل من : هالة عياد وعبد الكريم البناني ولبنى مشيشي ومحمّد علي منصور ووسام حمدي وفاطمة صفر.

الأنانية سبب الدمار والخراب
هي مدينة مشتعلة تغزوها الحرائق من كل حدب وصوب وتعلو سماءها سحب الدخان... لكن «حيدر» أدار ظهره لاحتراق بلدته واشتعال وطنه وكان كل همّه السؤال عن «المحاسب» بما هو رمز المال والثروة. هكذا كان استهلال مسرحية «أخطى راسي...» لنوفل عزارة.
وقد استعارت المسرحية عنوانها من المثل الشعبي «أخطى راسي وأضرب» بكل ما يحمله من رمزية مثقلة بدلالات الأنانية واللاّ إنسانية...

على ركح فضاء مسرح التياترو، تسرد مسرحية «أخطى راسي...» قصة الرّجل الثري وصاحب مصنع مواد للعناية بالشعر «حيدر» الذي كانت ميزته في بداية المسرحية صفة الحمق وهو الذي أقدم على استضافة غرباء في بيته في وضع ريبة وشكّ بخصوص هوّية مفتعلي الحرائق في كل أرجاء المدينة.
وبالرغم من معارضة زوجته «كنزة» لوجود غرباء في بيته فإنه يصرّ على بلاهته وغبائه... حتى كانت المصيبة ! فلم يكن هؤلاء الضيوف سوى مشعلي الحرائق في المدينة المسكينة. وهنا، يسقط قناع الحماقة عن «حيدر» ليكشّر عن أنياب الأنانية وإيثار النفس على حساب هلاك الآخر وأمن الوطن... إذ يعقد صفقة رخيصة مع ضيوفه من مروّعي السكان بالحرائق والنار، فكان الصمت عن جرائمهم والتستّر عليهم والتواطؤ معهم مقابل حماية نفسه وبيته وثروته من اللهيب الذي أتى على الأخضر واليابس.

الفساد يخلّف الحريق
في كل مكان
دون ثرثرة زائدة أو تمطيط في مدّة العرض، كانت ساعة واحدة من الزمن في مسرحية «أخطى راسي...» كافية لقول ما ينبغي أن يقال وإرسال باقة من الرسائل للعبرة والموعظة. ولم تكن ألسنة النّار المتربصة بسلامة العباد والبلاد إلا مجازا ورمزا للتطرق إلى معضلة تهدّد استقرار بلادنا الآن وهنا... فكأننّا بالمخرج استعار انتشار الحرائق للإشارة إلى ظاهرة الفساد التي استشرت في البلاد. وكما تواطؤ بطل المسرحية «حيدر» مع مشعلي الحرائق جبنا وشجعا وطمعا... فإنّ المسرحية تلمّح إلى أنه في وطننا هناك الكثيرون ممّن يتغاضون عن مظاهر الفساد لسبب أو لآخر والحال أنه خطر زاحف كالتسونامي لا يستثني أحدا!

وليس الغرباء الثلاثة الذين يشعلون الحرائق في المنازل سوى بيادق يحرّكها الحقد الطبقي ووهم الإيديولوجيا المغرقة في المثالية عن العدل الاجتماعي . فلا يترددون في إحراق مساكن الأغنياء وحتى إهلاكهم وحرمانهم من الحياة بدعوى تقويض الطبقة الثرية والانتقام للطبقة الفقيرة. ولكن هل في احتراق ثروة الأثرياء ثراء للفقراء؟
كما تأتي النار في مسرحية «أخطى راسي...» على الأملاك والأموال، فإنها تلتهم بفم نهم كل القيم والمبادئ والعلاقات الإنسانية... ليعربد في سماء الدخان المتصاعد من حطام الحريق مارد الشرّ والفساد والخراب...

درس في الوطنية والإنسانية
فوق ركح غاب عنه بذخ الديكور واستعاض عن المبالغة في وضع الاكسسوارات والمتممات بكتابة سينوغرافية وظفّت جيّدا عنصر الإضاءة ولغة الجسد والفواصل الغنائية... كانت مسرحية «أخطى راسي...» درسا في الوطنية والإنسانية.
ففي النهاية لم تفلح محاولات البطل «حيدر» في المحافظة على ثروته وسلامته بالدخول في تحالف دنيء مع أعداء الوطن والبشر في حمايته من الشرّ المحدق بكلّ المدينة.

إذ ينقلب السحر على الساحر في نهاية المطاف فيتعرّض منزله للحرق بعود كبريت قدمه بنفسه إلى مشعلي الحرائق ظنا منه أن تآمره مع العدو سيجنبه الهلاك.

وعلى مشهد النيران الملتهمة لجدران المنزل وصوت المطافئ القادم من بعيد، تنتهي المسرحية. وكأننا بالمخرج يمنحننا فسحة من الأمل في الغد. فهل يكون الماء الذي سيطفئ نار الفساد والخيانة والمؤامرة رمزا لطهر الأرض من جرم الإنسان؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115