في العرض ما قبل الأول لفيلم «بنزين» لسارة العبيدي: الجنوب التونسي على هامش الحياة

البنزين والجنوب، هي حكاية أخذ ورّد ومعركة كرّ وفرّ لا يعرف تفاصيلها سوى ذلك الطريق الطويل بالجنوب التونسي ولا يدرك معاناتها

إلا من اختار مهنة بيع البنزين إكراها لا اختيارا في ربوع همشتها التنمية وانسدت فيها الآفاق... من هنا، اختارت المخرجة سارة العبيدي أن تسم فيلمها الجديد بعنوان «بنزين».

«بنزين» هو الفيلم الأخير الذي جمع المخرجة سارة العبيدي بزوجها الراحل علي العبيدي. ويلعب أدوراه كل من سندس بلحسن وعلي اليحياوي وفاطمة بن سعيدان وجمال شندول ومكرم الصنهوري وفتحي بوسهيلة وعبد الحيّ مجيد ومنصور الصغير...

تجديد في تناول ظاهرة «الهجرة السرية»
كثيرا ما تلاحق كاميرا المخرجين «الحارق « في سعيه إلى ركوب موج المجهول أو في رحلته المجهولة على قوراب الموت نحو الضفة الأخرى... لكن في فيلم «بنزين» كان الاستثناء. فلم تهتم المخرجة سارة العبيدي بمن يغادر في هجرة سرية مسكونة بالوهم، ملفوفة بالخطر... بل وّجهت عدستها نحو الباقين هنا والمنتظرين هناك من العائلات المحترقة قلوبها لوعة على فقدان فلذات أكبادها ممن رحلوا عنها في غفلة من الزمن دون أن يتركوا أثرا أو يبعثوا بخبر...
في «بنزين» تتجلى مأساة عائلة فقدت بين عشيّة وضحاها ابنها الوحيد لتنقلب حياتها رأسا على عقب! استحالت الحياة في عيون حليمة وسالم بعد أن عجزت الأم الموجوعة والأب المقهور على تعقّب آثار ولدهما المهاجر ذات ليلة ظلماء إلى المجهول هربا من أفق مسدود وبحثا عن مستقبل أفضل... فكانت المعاناة التي لا تنتهي.

إبداع في الأداء
أمام عيون حائرة وشفاه خرساء ضاعت منها الابتسامة ووجوه شاحبة أنهكها التعب والوجع في انتظار خبر عن الغائب الذي انقطعت أخباره منذ أشهر عديدة ... تتسمّر كاميرا المخرجة سارة العبيدي لتنقل للمشاهد صدق اللحظة ولوعة الحادثة بمنتهى الحرفية والفن. وقد برعت صاحبة «بنزين» في التقاط التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفوارق الكبيرة في اشتغالها على النظرة والحركة والخطوة ...

في دور الأم التي في مقلتها دمعة وفي قلبها غصّة على فقدان فلذة كبدها، أجادت الممثلة سندس بلحسن تقمّص شخصية «حليمة» فكانت نقطة القوّة في الفيلم بنجاحها في إيصال شحنة من مشاعر الوجع والألم والعذاب إلى قلوب مشاهدي «بنزين». كما تميّز المسرحي علي اليحياوي في دور الأب «سالم» في نقل صورة الأب الذي يحاول جاهدا مغالبة الجرح ومقاومة الحزن بعد أن فقد سنده الوحيد في الحياة.
قد لا يحتاج فيلم «بنزين» إلى حوار أو موسيقى تصويرية فحتى لو كان فيلما صامتا كان سيؤدي المبتغى ويوصل المعنى بفضل التوظيف الجيّد لملامح الشخصيات وتعبير الجسد الذي كان لغة ناطقة ومعبّرة ومؤثرة في فيلم «بنزين».

وضع اجتماعي على حافة الانفجار
لم تهنأ عيشة الأم بعد غياب ابنها ولم يبق الأب مكتوف الأيدي وقد ضاع ولده... بل حاول كل من جهته وعلى طريقته البحث عن خيط يوصلهم إلى خبر شاف عن مصير ابنهم بعد أن عبثت بهم الروايات المتضاربة عن مهاجرين ابتلعهم البحر وجوف الحوت وآخرين قُذف بهم في السجن...
في هذه الرحلة اليائسة والتائهة للعائلة الصغيرة التي هدّتها الفاجعة وأنهكها الانتظار الحائر... فسح فيلم «بنزين» المجال للتطرق إلى جملة من القضايا الاجتماعية في الجنوب التونسي خصوصا والمجتمع التونسي عموما.

وإن نقل «بنزين» مأساة عائلة كانت ضحية «الحرقة»، فهي حكاية كل أسرة في كل وطن سرق منها البحر ولدها في رمشة عين... فكان نقد ظاهرة الهجرة السرية التي يغذّيها سماسرة الأرواح البشرية وأحلام الشباب.
وكما كان الشاب «أحمد» فريسة للهجرة على قوارب الموت بالرغم من حصوله على شهادة علمية بسبب ضيق الأفق، فلاشك أنها قصة آلاف الشباب ممن رموا بأنفسهم في المجهول أمام انعدام الأمل في غد أفضل.

أما واقع الجنوب التونسي فهو لوحده رواية وقد انعدمت به مواطن الشغل والأقطاب الصناعية الكبرى وكسا فيه الجفاف الأرض فشحت الفلاحة ... فلم يبق أمام أهله سوى اقتراف جرم التهريب أو بيع البنزين على قارعة الطريق. ولولا البنزين لجاعت بطون كثيرة وهاجر شباب آخرون وكانت الحياة في الجنوب أصعب بكثير.
انتهى مشهد «بنزين» على مشهد سفر الأب والأم من قرية «المجني» بولاية قابس إلى العاصمة بعد أن وصلهما استدعاء من وزارة الخارجية. ولا أحد يدري ما الذي حدث وما مصير ابنهما «أحمد» ! هكذا هي الهجرة السرية رحلة مجهولة للهاربين إلى هناك، ومأساة في قلوب الباقين هنا...

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115