مسرحية حضرة حرة من سوريا: «كن ما تريد يا وطن فنحن جوعى اليك...»

انتظرنا أيها العالم، مهلا لا تسرع الخطى فلازلنا نلملم شتات النفس وتشتّت الروح، انتظرنا أيها العالم فأرواحنا المنهكة

اثخنتها جراح الحرب والتمزّق، انتظرنا أيها العالم لا تسرع الخطى فأفكارنا اتعبها الرحيل وانفسنا اوجعها البعد والاغتراب، انتظرنا أيها العالم هانحن نسرع لنكون ندا لك ندا للحرية، ندا للحلم وندّا للأمل، انتظرنا فالجسد يكاد يشفى والروح غابت عنها الطلاسم واتضحت الرؤية امام الفكرة للنهض من جديد، انتظرنا أيها العالم هاهي الأجساد تكتب الياذتها، تنحت طريقنا نحو الامل، انتظرنا ها قد اسرعنا الخطى لنصنع معك وبك الأمل في وطن تكون اجسادنا عنوان لوجوده.
ولان الجسد حياة والرقص عنوان لفعل متمرد كتبت أجساد الراقصين في قاعة الفن الرابع ملحمة للأمل، ملحمة كتبها المخرج محمد ديبان واسامة الحفيري وجسدها على الركح كل من سجى النوري و نبيلة حكيم وغيث نوري و ماهر عبد المعطي وجول الحلو خمستهم رقصوا للأمل، خمستهم رقصوا للحرية واجسادهم كانت الياذة للتحرر.

لنا الجسد لنقول الحق ونصرخ للحياة
ضوء خافت تصاحبه موسيقى العود هادئة تحملك بين نوتاتها الى الحلم ، لوهلة ستشعر بالطمأنينة ولكن يرتفع الصوت فجأة ارتفاعا مفاجئا وكانه عنوان للرهبة والتأهّب للرحلة، خمسة أجساد تلبس اللون الأبيض، مغطاة بالكامل، اهو ابيض السلام ام الموت، اهو عنوان الامل ام الموت لأنه رمز للكفن، تتحرك تلك الأجساد لدقيقة او اثنتين، حركات مضطربة على الركح، مع صوت الموسيقى الموجع تكون الحركة جد مضطربة ،يتحرر الجسد الأول من بياضه، يتحرر من كفنه ويلبس الأحمر من «حيادية» الأبيض الى رمزية الأحمر ودمويته وربما ثورة داخلية تسكن ذاك الجسد.

بقية الأجساد لازالت تعاند اللون الأبيض لازالت تريد ان تتحرر، وبمجرد تمزيقها لذاك الحاجز ترقص، رقصات صاخبة وكأنها رقصة الحرية، رقصة التمرد ، أجسادهم تكتب طريق الاف السوريين الذين هربوا من دمار الحرب وهولها وتوجهوا عبر الجبال الى دول أخرى، كلما رقصت الأجساد وتحركت بقوة تتسارع الخطى التي تعرض في شاشة خلفية لمهاجرين يحملون حقائبهم هاربين من وطن موجود باحثين عن وطن اخر، في الحركة اضطراب وفي الخطوة تردد وكأننا بالمسافرين ممزقين بين خيار البقاء او الرحيل خيار تصحبه موسيقى جد حزينة وصوت يقول «قل له انّ المدن قد تفرّقت».

يتغيّر الضوء، من ابيض جميل، الى اصفر مقلق فاحمر قان، رحلة اللون وكأنها تجسيد لرحلة الأجساد المنهكة، او الأفكار الهاربة من واقع مرير الى مجهول قاتم، للضوء حكايته وانعكاسه على المتفرج، كلما ازدادت حمرة اللون ازداد توَهَان الأجساد واتضحت ملامح الشتات في الموسيقى.

هم خمسة... أجساد ترقص، او هم أفكار تائهة تبحث عن ملامح شتاتها، هم أفكار في هيئة انسان، فسجى النوري فكرة للرحيل و الشتات فكرة عنوانها فتاة وجدت نفسها لمرتين تهجر بلدها ومنزلها وحكاياتها لتنطلق من جديد، سجى النوري فكرة ولدت في بلاد الرافدين ، تربت على شموخ دجلة والفرات وفي العاشرة هاجرت الى سوريا تشبعت بتراث تدمر وزنوبيا بحثت عن موطن وكان الرقص وسيلتها الدائمة للتعبير عن ذاتها، وبعد الثورة هاجرت الى المانيا لتعيد خارطة الاستقرار من جديد، رحلة جسدتها بجسدها، رحلتها أصبحت فكرة وكان جسدها مطيتها للتعبير عنها.

فكرة أخرى كانت عنوانا للتمرد الدائم، فكرة اسمها ماهر عبد المعطي، راقص انطلقت تجربته منذ الصغر في وطنه الام سوريا، ثم فرقة «كاراكلا» اللبنانية، فهجرة الى المانيا، في العرض يكون جسده اكثر تحررا من كل القيود، يتماهى مع الموسيقى يعاند صوت الوجيعة ويعاكس هزاز الريح وكانه يعكس رحلة الالاف ممن هربوا عبر الجبال في «حضرة حرة» يجسّد الكائن العربي الذي يعاني من الاغتراب حيث تعترضه في كل مرة أفكار تحثّهُ أو تُثنيهِعن الرجوع إلى أرض الوطن مما يحيلنا على صراع مستمر وشرذمة تصفها الحركة وتحمل معانيها الرقص الصوفي أساسا الذي يحمل أيضا في طياته رقصا معاصرا.

على الركح تصرخ الأجساد، تحدث الجمهور عن التشتت والامل أيضا، عن الحرية تكتب الأجساد اجمل التعابير، فبياض الأمل يلازم لباس الراقصين، وموسيقى آلة القانون الجميلة تكتب تباشير امل يسكن كل الراقصين، امل حاولوا نقله الى المتفرج ليعيش على وقعه ، أجساد الراقصين كانت كما النبض نبض الحياة نبض الامل فالعمل عنوانه امل متجدد كما قال أسامة الحفيري مساعد المخرج، فالرقص كما العشق والعشق نهر.. اشرب منه كما يقول مولانا جلال الدين الرومي.

خبطة قدكم..خبطة العز ..
للقدم حكايتها ولخبطتها على الأرض قصة شعوب تابى الخنوع، شعوب تريد الحرية والحياة وتبحث عن تباشير الحلم مهما صعب، حضرة حرة عمل تتحرر فيه أجساد الراقصين من قتامة الواقع لتصنع لنفسها عالما اجمل، هروب من الموجود ومحاولة لنحت طريق الامل، طريق يكون الفن مطيته، الامل هدفهم و زادهم حركات الأجساد، حضرة حرة عرض تتماهى فيه أنماط موسيقية مختلفة، نجد موسيقى العود ودندنته التي تحملك الى طربيات الحلب، أحيانا يشاكسه صوت المجوز الفلكلوري لتجدك في جلسة فنية في احدى دور دمشق، ومرات تسمع نوتات غربية ترحل بك الى المانيا والسويد هناك اين اجتمعوا وكتبوا لأنفسهم مسيرة فنية انطلقت من إحساس بالغربة، تماهت الموسيقات كما تتماهى الأجساد في صناعة طريق الامل.

حضرة حرة عمل مسرحي راقص، يتجول بالمتفرج في عوالم الرقص الصوفي، رقص يكون تجسيدا للشتات فالأمل، خمسة حقائب زينة للعرض، والحقيبة دليل للسفر، ينتفض الجسد حاملا حقيبته كمن يحمل حلمه، فصندوق كبير اقصى الركح يتشاركون في جرّه وهو موشى بأجمل الألوان قد يكون الوطن، قد يكون القبر وقد يكون ثقل الحلم، تفسيرات متعددة

لرمزية ذاك الصندوق الذي يلد وسط العرض بياض الألوان.

في حضرة حرّة الكثير من الشجن، وجيعة من ترك الوطن واغتراب، وجيعة الباحث عن ذاته بين اخرين جدد، الحقائب دلالة للسفر ، الموسيقى القوية عنوان لوجيعة داخلية، الحركات الدائرية للراقصين وكأنها دورة الحياة، نداء يسكن الأجساد يعبر عنه صوت يقول: «يا ابن البحر صديقك الشبق، يا ابن البحر كأنّ الليل نسج أحلام الأرصفة» كلمات تصاحبها تلك الحركات الدائرية التي يرقصها الصوفيون حركات التحرر من كل ما هو مادي والدخول الى عالم تمحي فيه الحدود والحواجز، عالم الشبق والجمال السرمدي المطلق.

ولان جميعهم من سوريا ولان الجسد حمال تاريخ ولان الحركة عنوان للهوية تعود الأجساد الى سوريا و من رقصة الصوفيين يكون الموعد مع «الدبكة السورية» حركات فلكلورية تقليدية ولدت في الموطن الأصلي وبُنيت هيكلتُها في عرض مسرحي ألماني، الحركة التقليدية السورية حضرت كجزء أساسي من هوية الراقصين وكتعبيرة عن انتمائهم الأصلي حركات او «خبطة قدمكم الأرض مسموعة، خبطة العز وجبهة المرفوعة» كانت دليلهم للاعتزاز بانتمائهم الى وطنهم سوريا فهناك في المهجر «نريد ان نقدم للجمهور الألماني جزءا من تراثنا، نرقص ولكن من واجبنا ان نقدم الخطوة السورية لأنها الأصل عندي» على حد تعبير ماهر عبد المعطي.

تجتمع الأفكار، تتماهى الأجساد وتتحد الأصوات، جميعهم يعلنون ان الامل قائم وان الوطن وان تركناه ترتسم ملامحه فينا «كباقي الوشم في ظاهر اليد»، يجمعون الحقائد، تتكاتف الايادي وتتشابك وكأنها عنوان لوحدة مرجوّة، وحدة الفكرة والمسيرة، موسيقى العود تعود الى البداية، الضوء يكون اكثر وضوحا وصوت يقول « من جوعي اليك، كن لي كلّ شيء، كن سندا لمن سقطوا، من جوعي اليك كن ما تريد يا وطن».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115