وإن كانت الأفلام الجيّدة هي وحدها التي تنسيك أنك جالس في قاعة السينما، فإن فيلم «الجايدة» لسلمى بكار ينسيك أنك جالس أمام شاشة العرض بالسجن المدني بمنوبة أين عُرض الفيلم مساء الجمعة 10 نوفمبر 2017 بحضور المخرجة وعدد من أبطال الفيلم ضمن برمجة أيام قرطاج السينمائية بالسجون.
إلى «دار جواد» تُقاد المرأة ظلما باسم الشرع
كانت حوافر الحصان تدّق أزقة المدينة العتيقة في طقطقة يحتد صداها شيئا فشيئا وهي تقترب من «دار جواد» لتنزل من العربة في كل مرة سيّدة حكم عليها القضاء باسم الشرع بأن تقاد إلى «دار جواد» لأنها خرجت عن طاعة الزوج وسلطة الرجل. ففي خمسينات القرن الماضي كانت «دار جواد» عبارة عن سجن خصّصه المُشرّع لتأديب النساء ممن يرفضن أن يكنّ كائنات بلا خيارات ويحلمن بالاستقلال والحرية والكرامة ويدافعن عن حقوق مشروعة لا يمكن المساومة بشأنها.
«في الجايدة» تروي سلمى بكار بلغة سينمائية طريفة وذكيّة وحدها تفقه مفاتيح نجاحها وسرّ تأثيرها حكاية أربع شخصيات نسائية رئيسية من أوساط اجتماعية متنوّعة ومستويات تعليمية متباينة كانت لكل منهن حكايتها الخاصة والمختلفة لكن النتيجة كانت واحدة: العقاب في دار جواد!
أمام قاض يتوسط في مجلسه شيخين يمثلان المذهب المالكي والمذهب الحنفي، تجد المرأة نفسها متهمة حتى وإن كانت ضحية فقط لأنها لوت عصا الطاعة في يد الرجل الخائن أو الظالم أو العاجز... ومع كل إدانة تنزل ضيفة جديدة على «دار جواد» لتتقاسم مع بقية المعذبات في هذا السجن الغذاء والفراش والوجع والدموع ... وكثيرا من الكرامة.
«الجايدة»... تحفة سينمائية بتوقيع نسائي
أبدا لن يجد الملل طريقا إليك وأنت تشاهد «الجايدة»، وعبثا أن تحاول الشرود أو الانشغال عن الفيلم ... فالقصة الإنسانية المؤثرة والمشاهد الصادقة أمامك تجعلك تتسمّر أمام الشاشة وتندمج حد الانصهار مع كل سكنات الشخصيات وحركاتهم... هكذا هي سينما سلمى بكار: صورة مبدعة، فكرة مناضلة، كلمة حرّة...
وقد كان اختيار المخرجة لطاقم فيلمها موّفقا انطلاقا من اختيارها للمبدع ربيع الزموري في وضع موسيقى الفيلم وصولا إلى انتقائها الجيّد لطاقم التمثيل على غرار وجيهة الجندوبي، سهير بن عمارة، نجوى زهير، فاطمة بن سعيدان، سلمى المحجوبي، أحمد الحفيان، رؤوف بن عمر، بلال الباجي، خالد هويسة، رؤوف بن عمر، محمد علي بن جمعة، سامية رحيم، جودة ناجح، لطفي العبدلي، توفيق العايب ...
في فيلم «الجايدة» اختفى النشاز وحضر الانسجام ما بين الطرح السينمائي والأداء التمثيلي والتركيب الموسيقي... فكان العمل عبارة عن أيقونة فنية وقفت على حدود الأمس البعيد ولامست تخوم الحاضر القريب.
استقلال البلاد وتحرّر المرأة... نضال واحد
بمنتهى الدقة والكثير من الفن في توظيف ديكور «الجايدة» ليكون وفيّا وصادقا لمناخ حقبة الخمسينات، عادت كاميرا سلمى بكار إلى النبش في التاريخ والاستلهام منه وتحديدا تلك الفترة الفاصلة بين سنة 1954 و1955 والتي كانت فيها البلاد التونسية في مخاض عسير من أجل حلم الاستقلال من الاستعمار الفرنسي.
وإن لم يغفل الفيلم الحراك السياسي وحركة المقاومة في هذه الحقبة الفاصلة من تاريخ تونس بما في ذلك تمرير إشارات واضحة بخصوص اختلاف المواقف من معركة التحرير ما بين أتباع صالح بن يوسف وأنصار الحبيب بورقيبة، فإن الأهم بالنسبة للمخرجة سلمى بكار في هذا الفيلم هو تسليط الضوء على نضال المرأة من أجل التحرّر من استعمار «دار جواد».
في «الجايدة» كانت «دار جواد» بمثابة الصورة المصغرة للبلاد التونسية التي ترزح تحت ربقة الاستعمار ولهذا كان خلاص النساء السجينات في «دار جواد» رهين تحرّر تونس من الاحتلال الفرنسي.
في واحد من أكثر المشاهد تأثيرا في فيلم « الجايدة» كانت عودة بورقيبة في جوان 1955 محققا الاستقلال الداخلي لتونس هي الخلاص والمنفذ المنقذ لسجينات «دار جواد» حيث تم حلّ هذه الدار بإلغاء المحاكم الشرعية لتعانق المرأة التونسية الحرية بصدور مجلة الأحوال الشخصية في 13 أوت 1956. في نهاية الفيلم تسلّم المخرجة المشعل إلى الطفلة الأصغر سنّا في شخصيات الفيلم محمّلة إياها وصيّة أجيال بأن معركة المرأة من أجل الحرية متواصلة وأن النضال يستمر ...
في السجن المدني بمنوبة:
السجينات يتفاعلن مع حبيسات «دار جواد»
لم تخف المخرجة سلمى بكار سعادتها بملاقاة النساء ممّن قادهن القدر إلى السجن وألحت بأن تشاهد كل السجينات فيلمها «الجايدة» لأنه ينتصر لحرية المرأة وكرامتها كي تبقى كلمتها حرّة... في المقابل تفاعلت نازلات السجن المدني بمنوبة مع الفيلم وقد وجدن فيه شيئا من سجنهن ووجعهن ومعاناتهن ... وكانت شهادتهن بخصوص الفيلم عميقة ومؤثرة إلى أن تغادر السجن وسؤال إحداهن مازال يتردد على مسامعك وهي تعلّق في مرارة : «إن تحرّرت نساء الفيلم من سجن «دار جواد» بفضل بورقيبة... فنحن من يخرجنا من سجننا ؟
لماذا استُبعد «الجايدة» من افتتاح أيام قرطاج السينمائية؟
إن حظي فيلم «الجايدة» من إنتاج سلمى بكار وعبد العزيز بن ملوكة بالعرض في أيام قرطاج السينمائية ضمن سهرة خاصة فإن هذا الفيلم بما يتوفر عليه من تقنيات سينمائية عالية وجمالية فنية وقضيّة إنسانية كان يستحق أكثر من ذلك بكثير .... فلاشك أن هذا الفيلم كان سيضيف كثيرا للسينما التونسية إن عرض ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان . كما يتمتع فيلم «الجايدة» عن جدارة بكل المؤهلات والشروط التي ترشحه لافتتاح الأيام. لهذا يبقى تساؤل المخرجة مشروعا : «لماذا لم يبرمج «الجايدة» في افتتاح أيام قرطاج السينمائية؟».