في العرض الأول لفيلم «على كف عفريت» لكوثر بن هنية العدالة بيد الجلاّد... وإذا «مريم» سئلت بأي ذنب اغتُصِبت؟

في عودة إلى قضية هزّت الرأي العام، استلهمت المخرجة كوثر بن هنية فكرة فيلمها الجديد «على كف عفريت» من الواقع، من حادثة سوداء اهتز لها الشارع التونسي. وبعد أن اعتلى منصة المهرجانات العالمية في تتويج تلو تتويج على غرار جائزة مهرجان «كان»، حلّ هذا الفيلم الروائي الطويل بتونس لمصافحة جمهور أيام قرطاج السينمائية ضمن المنافسة على

التانيت الذهبي للمهرجان. وقبل انطلاق «الأيام»احتضنت أول أمس قاعة سينما أميلكار بالمنار عرضا خاصا بالصحافة لفيلم «على كف عفريت».
بعد اقتباس فيلمها الروائي الطويل الأوّل «الشلاّط» من قصة واقعية، استوحت كوثر بن هنية «على كف عفريت» من تفاصيل جريمة اغتصاب الشابة التونسية «مريم» سنة 2012 على يد رجلي شرطة ليصدر سنة 2014 حكم ضدهما بالسجن مدة 15 عاما. ويلعب بطولة الفيلم كل من :مريم الفرجاني وغانم الزرلي ونعمان حمدة والراحل محمد العكاري وشاذلي العرفاوي وأنيسة داود ومراد غرسلي...

قصة واقعية... حبكة سينمائية
في نزعة تراجيدية ودراما ملحمية، كان فيلم «على كف عفريت» كابوسا خانقا ومأساة قاتمة وقاتلة عصفت بحياة شابة في مقتبل العمر تغني للحياة وترقص للفرح وتشتاق إلى الحب... فإذا بوحوش آدمية تغتصب هذا الحلم والأمل. فكيف يمكن أن تطلب «مريم» القصّاص لشرفها المغتصب وجسدها المنتهك وجلاّدوها هم ذاتهم يلبسون ثوب حرّاس العدالة؟
إن لم تنقل كاميرا المخرجة كوثر بن هنية مباشرة مشهد اغتصاب رجلي الأمن لمريم، فما بعد حادثة الاغتصاب تبدأ الحكاية... لتكون تلك الليلة المشؤومة هي الزمن الوحيد الذي احتضن أحداث الفيلم واتسع لكل رموزه وشفراته ورسائله الخفية، الجليّة.
في مجتمع كثيرا ما تصمت فيه المرأة عن جريمة الاغتصاب درءا للفضيحة وخوفا من جلد سياط المجتمع، هبّت مريم كالقطة الجريحة لمحاسبة جلاديها وللانتقام من مغتصبيها سيّما وأنها وجدت المساندة والمؤازرة من رفيقها «يوسف»، الضحية الثانية لاعتداء عوني الأمن.
لكن أبدا لم يكن طريق الحق بالمعبّد أمام الضحيّة وهي تشتكي إلى رجال الأمن جرم مغتصبيها من رجال الأمن أيضا، وفي مركز الشرطة نفسه الذي يشتغل فيه العونان اللذان انتهكا حرمة جسدها! فأين قوّة الحق من حق القوّة؟
تحت غطاء الليل والديكورات الضيّقة والأبواب المغلقة والإضاءة الشاحبة كانعكاس لوجع مريم تنفجر نواة الفيلم عن قضايا جوهرية لتفضح أمراض المجتمع وعلّة مؤسساته على غرار معاناة المواطن من الحالة المزرية للمستشفيات والمعاملة المهينة في مراكز الأمن... في بلد «على كف عفريت».

تقطيع المشاهد على طريقة الرواية
وأنت تشاهد فيلم «على كف عفريت» تجد نفسك في تناص مع فنون أخرى لعل أبرزها وضوحا فن الرواية. فقد اختارت المخرجة كوثر بن هنية اقتفاء أثر السرد في لغتها السينمائية السلسة والمشوّقة التي تجلت بوضوح في تقطيع الفيلم إلى تسعة فصول من تسعة مشاهد يفصل بينها الترقيم في كل مرّة. وهو ما منح الفيلم حسّا واقعيا يجعل المتفرج يستعين بكل حواسه من أجل مرافقة مريم في رحلة العذاب والعناء من المستشفى، إلى سيارة الشرطة، إلى مركز الأمن... ما بين السؤال المحرج والتحقيق المستفز والهرسلة العنيفة.
تميّز فيلم «على كف عفريت» برؤية إخراجية ذكية تجيد اقتناص اللحظة وتبدع في نقل المشهد كما كان موّفقا في اختيار شخصياته بفضل الأداء المبهر لجلّ طاقم التمثيل. وإن تبدو البطلة مريم الفرجاني تائهة في بعض المشاهد في السيطرة على أداء شخصية «مريم» بما يستوجبه هذا الدور لمرأة مغتصبة ومظلومة من وقع مدو وأثر بالغ في نفوس المشاهدين، فإن هذه الهنّة لم تفسد للوّد قضية في فيلم «على كف عفريت». كما إن الأطناب في بعض المشاهد والتكرار لعدد من الأفعال والأقوال لم يبطل سحر الفيلم ولم يطمس متعة الفرجة بفضل سيطرة المخرجة على إيقاع اللقطة وجودة الصورة وحرفية الممثلين... يحدث أن تنبع النكتة وخفة الروح من سوداوية الأحداث وقتامة المشهد في فيلم «على كف عفريت».

صرخة امرأة في مجتمع ذكوري
بعد اغتصاب جسدها واختلاس أحلامها واختطاف آمالها... لم يرحموا ضعف الضحيّة ولم يشفقوا على وجعها الدامي وجرحها النازف في مجتمع يوّجه للمغتصبة أصابع الاتهام وهي البريئة ويلومها وكأنها مذنبة. ومن هذا التآمر على الضحية الضعيفة والمهتزة نفسيا استمدت مريم قوّة حديدية وعنادا لا يلين في مواجهة جلاّديها ومقاومة حكم المجتمع المتجني ...
ما بين الخوف من السلطة الأبوية والخشية من السلطة الأمنية، تمزّق صراخ مريم في مجتمع ذكوري لم يتوان عن إدانتها باعتبار أن «جمالها وخلاعة فستانها وخروجها ليلا...»كانت دافعا لاغتصابها!
في «ملحمة» التشبث بالحق في مقاضاة المعتدين مقابل التهديدات الشرسة للتنازل عن حق التتبع ، كان المشهد الأخير من الفيلم عميقا إلى حد الإبهار ومحمّلا بالرموز الخفية والايحاءات المتخفيّة وراء القول الصريح ...في هذا المشهد بمركز الأمن كان الممثل شاذلي العرفاوي في دور المحقق الذي يستنفد كل وسائل الترغيب والترهيب من أجل إثناء مريم عن إصرارها في رفع قضية ضد مغتصبيها... هنا يقايض رجل الأمن مريم بحب الوطن بدعوى أن تشويه المؤسسة الأمنية ليس في صالح تونس والبلاد «على كف عفريت». لكن مريم - التي تشبه في لحظة ما تونس التي اغتصبت ثورتها - ترفض الاستسلام وتستميت في الدفاع عن الحق حتى وإن كان المستقبل «على كف عفريت» !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115