وقد ألقى والي الجهة المنجي ثامر كلمة نيابة عن رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي الذي وجّه رسالة تأبينية بهذه المناسبة جاء فيها خاصة «لقد كان الفقيد عربيا حتى آخر نبض في عرقه، يؤمن أن الإبداع حقل أخصب وأرحب يمتدّ أينما حلّت الشمس على امتداد الأرض العربية ولذلك كان من أكثر التونسيين إشعاعا وكان أدبه الاكثر انتشارا لدى القارئ العربي، ولقد أسس مركز الرواية العربية التي تجتمعون في رحابها اليوم حتى يأتي إليه الوطن العربي حينما يغيب هو عنه ..»، هذا وتم تقديم عديد الشهادات تناولت سيرة الراحل العلمية والأدبية والمدنية والنقابية..نذكر من بينها شهادة رئيس جامعة منوبة أ. شكري المبخوت الذي اعتبر أن مدوّنة المرحوم محمّد الباردي الروائيّة إحدى المدوّنات الأساسيّة في السرد في تونس، فعلاوة على إخلاص الرجل لفنّه لأكثر من ثلاثة عقود فإنّنا نجد تحوّلات بيّنة داخل هذه المدوّنة يتجاوز فيها إجمالا اللاّحقُ السابقَ على نحو يدلّ على وعي بالكتابة وسعي إلى تجويدها.
وشخصيّا أحبّذ أعماله الأخيرة التي تتضمّن إحكاما للبناء للروائيّ وتدفّقا سرديّا واضحا.. وممّا يحسب لمدوّنة الباردي أنّها تضمّنت ثاني سيرة ذاتيّة في تونس وهي «حنّة» الصادرة سنة 2007 بعد سيرة المرحوم «العروسي المطويّ» التي نشرها في بداية التسعينات، فقد كانت له من الجرأة ما جعله يقدم على كتابة سيرته الذاتيّة أو بالأحرى استرجاع جزء من حياته، ولكن حين نقارن بين هاتين السيرتين لشخصين من مدينة واحدة ويمثّلان جيلين مختلفين نرى بعض ما يؤكّد تطوّر السرد في تونس، فسيرة الباردي الذاتيّة جاءت أكثر جرأة وأشدّ وعيا بمقتضيات البناء في السيرة الذاتيّة..واعتقادي انّه لا يمكن الحديث عن الرواية في تونس، خصائص وتحوّلات، دون العودة إلى مدوّنة الباردي، وللأسف هذه المدوّنة غير معروفة المعرفة التي تستحقّها لأنها غير منشورة النشر العاديّ إذ تكفّل في الأغلب بذلك المؤلّف نفسه عن طريق داره للنشر. لذلك أرجو أن تنشر مدوّنته الكاملة محقّقة مصحّحة فهي جديرة بذلك فعلا..»، أما شهادة أستاذة النقد بكليّة الآداب منوبة سلوى السعداوي فجاء فيها خاصة أن الباردي كان روائيّا محترفا يملك أدواته السّردية تنظيرا وإبداعا ، ويبني عوالمه الرّوائيّة بتفنّن كبير..
كان ماهرا في نحت شخصيّاته القابسيّة والتّونسيّة..وكان حكّاء في حياته اليوميّة ومداخلاته العلميّة وفي نصوصه التخييليّة..كان يكتب الرّواية لأنّه وعى وظيفة السّرد في حياة الإنسان ، والحكاية عنده شفاء للنّفوس الحزينة، وتساعد على نسيان آلام البشريّة... احك تنس، احك تسترح، احك تكن .. و«ما بقي لنا إلاّ الحكي ولابدّ لهذه الحكاية أن تنتهي لتبدأ حكاية أخرى.. حياتنا حكايات تتناسل الواحدة من الأخرى ، تلتقي أحيانا تتقاطع وتتضارب أيضا ، ولكنّها حكايات نارها من تجاربنا.وقد نختلق أشياء ونحن لم نعشها .قد نكذب ونحن نبحث عن منطق يجمع بين عناصرها..».
هل أتاك حديث الفراق؟
شهادة الأستاذ أحمد السماوي عنونها بـ «هل أتاك حديث الفراق؟» وتضمنت « لا ألم يعلو على ألم الفراق. وأدنى منه ألمُ المرض العُضال».
فالمرض، مهما يحتدَّ، يُؤمَل أن يعقبه شفاءٌ. أمّا الفراق فلا أمل يُنتَظَر منه.كذا كان حال المرحوم الباردي، فقد أخذه منّا المرض عاماً ونيّفاً. وجاء الموت ليقضي على أيّ أمل في شفائه منه، ومن ثمّ، في عودته معافَى إلى نشاطه الفكريّ وإبداعه الأدبيّ. رحمه الله رحمةً واسعةً ورزق أسرتيْه الاجتماعيّة والثقافيّة صبراً وسلواناً. لكنّ الحيّ، رغم ذلك، أبقى من الميّت. ومن خلّف ما مات ، فللباردي، إلى جانب بناته، أجيالٌ من الطلبة كثيرةٌ، ومؤلّفاتٌ في السرديّات وفي القَصَص عديدةٌ. كلّ ذلك كفيل بجعل ذكر الفقيد لا ينقطع...» ، هذا وحملت شهادة الروائي والناقد السوري نبيل سليمان :» طوال ثلاثين سنة كانت زيارتي لتونس تعني أنني سألتقي بصديق العمر “محمد الباردي”. قد تكون الزيارة للقيروان أو للعاصمة أو لسوسة، حيث ثمة
ندوة أو مؤتمر، وليس لمحمد الباردي مشاركة فيها أو فيه، لكن ذلك لا يعني أننا لا نلتقي، حتى لو يمت إلى كعبته (قابس) بشكل شخصي. هل سأبدو عاطفياً جداً أو ندّابة لو قلت. «محمد الباردي» يعني لي قابس، كي لا أقول يعني لي تونس؟ إنه الموت، إنه اللغز الذي يحلل من الكلام ما لا يُحلل، فأنا مولع بالكلام المحرم، بالأحرى: بكل محرم، أرخي لنفسي العنان في حضرة الموت، فأنادي محمد الباردي الآن إلى الرقة، أجل، إلى الرقة، ليتجدد لقائي بصديق العمر في المدينة البديعة الصغيرة التي سكنتني منذ خريف 1967 إلى اليوم ولطشت «محمد الباردي» بسحرها في لقائنا الأخير في سورية...»، هذا واهتمت شهادة أ محمد بن محمد الخبو بمحمد الباردي الأكاديميّ وجاء فيها خاصة « مما يعرف به الراحل الأستاذ “محمد رجب الباردي” كونه شخصيّة أكاديميّة فذّة.لقد انتخبه أساتذة قسم العربيّة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس رئيسا للقسم في ثلاث مناسبات لما عرفوه فيه من قدرة فائقة على تسيير شؤون التدريس والنشاط البيداغوجيّ والعلمي في القسم المذكور.وانتخب رئيسا للجنة الماجستير خلال أكثر من أربع سنوات وما كانت ثقة زملائه به لتكون على هذا النحو لولا ما لمسوه فيه من
دفاع مستميت على كل مكتسبات الأستاذ في الجامعة…كان «سي محمّد» يوزّع مسائل التدريس على مستحقّيها من ذوي الاختصاص وبحسب الدرجة العلميّة لهذا الأستاذ أو ذاك لمن هو أقدم وأقدر عليه.أذكر أنّي مرّة تخلّيت عن تدريس مادّة المناهج حتى يكون تدريسها دولة بين الأساتذة فاندلع حجاج صاخب بين مجموعة من الأساتذة كلّ يريد تدريسها.فصاح سي محمد –رحمه الله- غاضبا :أما تخجلون..تأخذون درسا صاحبه قضّى في تقديمه للطلبة سنين طوال، والله لا يدّرس هذه المادة إلّا «الخبو» فصمت الجميع وخجلوا. وكان «سي محمد» يدرّس هذه المادّة مع الأستاذ الراحل الفلسطيني جودت كسّاب وعندما جئت إلى كلّيّة صفاقس من كلّية القيروان سلماها لي دون طلب منّي وقد كانا يعرفان أنّي كنت أدرّسها بكليّة رقّادة..
ووضعت الأستاذة شهلا العجيلي شهادتها تحت عنوان « الأستاذ الذي سقانا دموع الشجرة» وأكدت فيها خاصة على أن الجانب الأكاديميّ للباردي طغى على وجهه الروائيّ، وتلك من الفخاخ التي تصنعها سطوة النقد، إذ أنتج منذ 1981 حتّى 2008 سبعة نصوص روائيّة، منها (الملاّح والسفينة) و(قمح أفريقا)، و(حوش خريّف)، و(حنّة)... وهي تحتاج درساً نقديّاً جادّاً
يعطيها حقّها، عبارته السرديّة تؤكّد معرفته الأصيلة بهذا الفنّ وجماليّاته، يمشي معها المتلقّي طواعية، وحكايته متدفّقة، ولغته طليقة، بعيداً عن العاميّة التونسيّة المغرقة، والمجهَدة في إثبات خصوصيّتها، أو المصطنعة لإثبات عروبتها. عُنيَ في نصوصه الروائيّة بقضايا مجتمعه الصغير، قضايا يوميّة، لكنّها دالّة على حركة العالم، وأشار في أحد كتبه إلى أنّه يذهب إلى الرواية من حيث هي حياة، تحاول الإديولوجيا بسطوتها أن تحوّلها إلى جحيم، وأنّ الكاتب لا يملك سوى الكتابة التي ليست بالضرورة أداة لتغيير حتميّ، لكنّها تحمي سيرورة الحياة، وأنّ من يمتلك الإمكانيّة لتغيير حياة الأفراد، أشخاص آخرون غير الكتّاب، لكنّهم للأسف لا يمتلكون قيمة جماليّة. كتب عن أبناء الهامش أو الأطراف، وعن المهاجرين، وعن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، والتي تأخذ وجوهاً متعدّدة:العلاقة بين المراكز والأطراف، والمدن والأرياف، والمدن المهمّشة والعواصم، والمراكز الاستعماريّة والدول المستعمَرة والتابعة، والسلطة الذكوريّة والنسويّة المقاومة أو الخاضعة» كما حملت كلمة الإبنة البكر للراحل الباردي، الكثير من العفوية والعاطفة.