العرض الأول لمسرحية «ماذا أين» لعاصم بالتوهامي لا تحزن إن لـم يدركوا قسوة الحلم في عينيك

سواد على الركح، سواد في المفاهيم، سواد في الاحداث، بين المأساة والمأساة تولد مآسي اخرى، ومن رحم المأساة تولد وجيعة وسوداوية قد تبكيك وربما تضحكك، هكذا هي حركات الممثلين على الخشبة، بحركاتهم، باجسادهم نقلوا الوجيعة وصوروا المأساة في مسرحية «ماذا، اين» إخراج عاصم بالتوهامي.

«ماذا أين» قدمت في عرضها الاول في فضاء التياترو بالعاصمة، مسرحية ولدت من رحم ماساة فضاء «حوش الفن» بمدنين، عمل جنوبي الهوى قدمه كل من خالد اللملومي وحمزة بن عون واحمد رامي عاشور واحمد مكرازي وجهاد اليحياوي، شباب امن بالفن والحلم واتخذوا المسرح وسيلة لنضالهم والتعبير عن سعيهم الدائم لتكون جهاتهم منارات ثقافية.

بين اغتراب الامس واغتراب اليوم؟
خمسة اجساد على الركح، جميعهم يلبسون الاسود، اربعة اجساد متلاحمة حد التشابك وجسد اخر في الركن بيده عصا سوداء ربما هي رمز القوة، جميعهم يلبس الاسود والاسود رمز الليل كما للاسود رمزية الموت والقتامة والحزن والالم والوجيعة، جملة تتكرر طيلة العمل «هل عذّبته، هل اعترف، بالسر؟ لماذا لم تواصل تعذيبه؟» كلمات عن التعذيب، تحيل المتفرج مباشرة الى المعجم الحربي ويعود الى النص الاصلي لصمويل بيكيت وفترة كتابته، فنص «ماذا أين»؟ كتب بعد الحرب العالمية الثانية، اين اندثرت القيم الانسانية واصبح الانسان يعيش حالة اغتراب كبيرة، اغتراف وخوف وتخوين للاخر ايا كان، اغتراب شاهدناه على الركح من خلال حركات الاجساد المضطربة، خوف رسم على العيون ووجيعة تركت

بصماتها على الشفاه المكتومة وألم جسد من خلال حركات بطيئة وكأن الأجساد تحمل وزر الحرب فوقها، على الركح شاهد المتفرج بعض من اغتراب الانسان عن اخيه الانسان، واغتراب عن ذاته وقيمه احيانا، الضوء اصفر جد مقلق، ضوء يحيلك حتما الى غرف التعذيب، أو ملاجئ ما بعد الحرب تلك الدهاليز شبه المظلمة التي تعرف للنور طريقا، الموسيقى قوية صاخبة وكانها صرخات المعذبين والمتضرعين الى الرب لايقاف الحرب، لساعة من الزمن ستشعر انك جزء من الحكاية، ستجدك متوترا مشدود الاعصاب يقلقك اصفرار الضوء وتزعجك الصرخات ستشعرك انك تلبس الاسود مثلهم وتتساءل لماذا الان؟ لماذا كل هذا الظلم والسواد؟ اين انسانيتي؟
ماذا؟ اين؟» و في ظلّ ما يعانيه الإنسان اليوم من انعدام الثقة في النفس و تذبذب للذّات و إنعزال كلّي عن كلّ القيم و الثوابت التي ارتكزت عليها وجود الانسانيّة
و في ظلّ مختلف التراكمات و التغيّرات اللّامعقولة من نكسات و ويلات و دمار مادّي...خلّف من خلاله إغترابا نفسيّا للذات البشريّة...وجعل منها شيئا جامدا دون وعي أو إحساس، ارتأينا السؤال عن ماهية وجودنا ومعنى الفعل الذي نقوم به في ظلّ ما نعانيه من اشكاليات صعب تحليلها وتغييرات شملت تركيبتها الاجتماعية والنفسية وجب الوقوف عليها وطرحها للمتلقي» على حد تعبير خالد اللملومي.

تشتت وتشظّي نفسي ستعيشه وستسأل كما يسألون عن ماهية الانسانية اليوم، ستحاول ان تتساءل عن حال الانسان اليوم، ستبحث في الاجساد المنهكة عن معاناة التونسي، ستحاول ربط الصوت القوي مع تضرعات «الزوالي» في ربوع هذا الوطن، اما صفرة الضوء فستحيلك الى صفرة المرض والاجساد الوهنة والطفولة المحرومة، العذاب عند «بيكيت» سببه الحرب العالمية الثانية اما عذاب اليوم فسببه الدولة، سببه النظام، سببه الانسان، سببه الحرمان والمركزية والتوزيع غير العادل لثروات البلاد.

لا تساوم...واصل الحلم فالحلم كائن
خمسة على الركح، دون اسماء او علامات تعرّف بهم «خمسة هم آخر من تبقى، الزمن شتاء، والوقت يمضي»، وبالفعل الوقت يمضي بسرعة اذ تتشكل الاجساد وتعيد كتابة الاحداث، في العمل الكلام نادر وحدها لغة الجسد هي الفيصل، تماما كما حكايات المستضعفين قد تكفي دمعة واحدة للتعبير عن ثقل الحمل، خمستهم مميز، خمستهم مختلف جمعهم حلم الفن في جهة مدنين، خمستهم له مشروعه وطريقته في التعبير جمعتهم وجيعة «بيكيت» وعبث الراهن ليقدموا عملا امتع جمهور التياترو.

«ماذا... أين؟» هو دعوة للتفكير في المشترك الجماعي الذي يجمعنا و الكامن في دواخلنا و المتحكّم في وجودنا...مثّل لنا نص « صامويل بيكيت» منفذا يحاكي هواجسنا اليوميّة من ناحية و الفنيّة من ناحية أخرى بإعتباره محملا مسرحيّا له طابع شمولي إنساني يمكن من خلاله الوقوف على مخلّفات ما بعد ثورة 14 جانفي و عبثيّة التونسي اليوم، على حد تعبير الممثل خالد اللملومي، على الركح يمكن طرح السؤال عن حال الفنان ومايعيشه من اغتراب، كما وزر الحرب هو وزر الثقافة في تونس، تناحر وصراع وانشقاق وانقسام والنتيجة ان الفنان هو الحلقة الاضعف، مشتت بين اللجان والاستشارات والمجموعات والادارات والحقوق المسلوبة.
من السواد يستمد الابيض وجوده والصراخ قد يصبح موسيقى صاخبة راقصة، والاقوى يمكن ان يصبح الاضعف، فذاك صاحب العصا بعد ان كان سيد الاحداث يحرك الاجساد كما يريد بضربة عصاه على الركح يصبح الحلقة الاضعف بعد ثورة الاجساد وتحررها من سيطرتها وكان عبثية بكييت تحملنا الى عبثية من ثاروا ضد الظلم وعبثية من لازالوا يؤمنون بالحلم وفي مدنين هناك شباب مؤمن بالثقافة، مؤمنون بقدرتهم على النجاح ، زادهم صبر ابن الصحراء وحلمهم ان تكون مدينتهم قبلة للمبدعين.

على الركح يشاهد المتفرج اجساد واهنة أولا، مطيعة خانعة، معذّبة، ثم تقرر التمرّد، يسقط بعضها على الارض ليواصل الآخرون المشوار، رسالة الى الشباب المبدع «واصلوا الحلم واغرسوا بذور حلمكم أينما ذهبتم فالحلم حق وكائن وسيزهر يوما على الركح قدموا عمل ولد من رحم المأساة، عملا ولد في فضاء وليد منذ انبعاثه وهو يناضل ليقرّب الثقافة الى ابناء الاحياء الشعبية».

في الحوش ولد العمل، عمل وجهد مجموعة من الشباب المؤمن بالحلم والنجاح، يعملون في صمت وجميعهم يردد لا تحزن إن لم يدرك قسوة الحلم في عينيك، قل لهم ان تاريخ الأجداد غارق في أرض الملح، قل لهم ان دماء الشهداء تباع خلسة في قريتي، قل لهم ان الوطن للاغنياء فقط لانهم وحدهم يتقنون سر البيع والشراء، لاتحزن ان لم تدرك قسوة الحلم في عينيك ، فقط ارفع السبابة في عين كل من اراد ان يسرق منك الحلم، وارفع الجنون الى الواحد الاحد فوحده يدرك مأتاه ومآله، فقط احلم وازرع بذور حلمك وستزهر البذور يوما.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115