ولا تشمئزّ لما آلت إليه أحوالُ صبيّة
سُجنتْ في شرنقةٍ خيطانُها من سلاسلَ وأصفادٍ
صبيّةٌ نُقشَ على صدرِها وشمُ عبوديّة خطّت عليهِ كلماتٌ أتوَا بها من عصر الجاهليّة موتي فأنت موؤودة يومَ صرتِ لنا السّبيّة»
• الشاعرة سامية خليفة - لبنان
إن رحلة العمل الخزفيّ عموما، بين الفكرة والحقيقة أو «التجسيد»، رحلة طويلة شاقة ومحفوفة بالأخطار، ولا يجعلها قصيرة تُطاق سوى خزاف متمرِّس يعرف ما يريد، فيصل إليه عبر أدوات حرفته. من هنا فإن الخزف الفني والخزف الحرفي وجهان لعملة واحدة. لأنه ما يعبّر عنه بالعمل الفني، خاص بالعمل ذاته، وأن المادة والشكل والتعبير يعتمد كل منها على الآخر فليس لواحد منهم وجود بمعزل عن الآخر والمضمون التعبيري لأي عمل لا يكون على ما هو عليه إلا بسبب العناصر الماديّة والتنظيم الشكليّ والموضوع وهي العناصر التي يؤدي تجميعها إلى تكوين العمل. ويعتبر الفن من أهم وسائل التعبير الجمالي لدى الإنسان والذائقة الجماليّة التي تخضع لمختلف المؤثرات وبخاصة البيئة الطبيعيّة التي لها وقعها الخاص في التعبير الفني كما قال المفكر محمد العبيدي:»فالطبيعة هي المنبع الروحي للقواعد،والطبيعة قد تكون مماثلة في جسم الإنسان وعاداته وغرائزه، فالإنسان نفسه ظاهرة طبيعيّة» . والفن عموما، هو انتماء للمكان والبيئة الطبيعيّة وفن الخزف جزء من الفنون التي حملت التعبير البيئي والتطور الثقافي.
• كيف تمثلت البيئة الطبيعيّة في تجربة الخزف المعاصر؟
تجسد علاقة الخزاف بالبيئة التي يعيش فيها، صورة بسيطة للانتماء إلى الطبيعة المألوفة لدينا. فعندما نتأمل في خروج شرنقة مثلا، نحسّ بأن الطبيعة في حدّ ذاتها مرجعا فنيا، و أداة للتعبير عن العاطفة الجياشة بشتى الانفعالات، وهي من التأملات التي أوحتها له البيئة الطبيعيّة. فالخزاف لا ينقل حياة (البيئة طبيعيّة) بكاملها، بل انه يسهم في خلقها وتغييرها بالاعتماد على بعد زمني ماض وحاضر ومستقبل، «حتى يكون للعمل تجاوزه وقدرته على معايشة المتغيرات الجديدة و بالتالي فإن التعامل مع عناصر الطبيعة وتوظيفها في نظم شكلية ضمن النص الخزفي يضعنا أمام تأويل فني يُجسد صُورة الفراشة في مختلف مراحل نموّها.
فهذه المنحوتات الخزفيّة التي تُحاكي مرحلة الشرنقة ذات الدّلالات والتشكيلات الأسلوبيّة المتنوعة، تعكس لنا صورة جسد المرأة، من حيث التكوينات الجازمة٬ الظاهرة السيميائية المؤثرة نفسيا٬ والنابعة من خصُوصيّة ذاتية لها موضوعيتها الجماليّة والإنشائيّة المشحونة بوجدانيات تترجم الوثبات المتعالية عن الجراح٬ وعن القبول والرفض الجميل. فخطاب «الشّرنقة» في هذا العمل الفني و بصبغة أرديته الحريريّة تفترش أجساد النّساء، مكرّسة نصًّا حياتيًّا مشطورا نصفين. النصف المتدثر بسواد ظلمة الكهوف التي يُولد من رحمها الجسد، و نصف يُقارع هذا الشيء الذي يُكبّله و يحدّ من حريّته. مُحاولاً بذلك تمزيق هذه العتمة ...
شدّدت في هذا العمل على تشبيه جسد المرأة بأنواع ثلاثة: الدودة /الشرنقة/ والفراشة. وهي نظرة تتوافق مع منطق «ألتوق إلى الحريّة». فالدودة تزحف في مجال ثنائي الأبعاد،و هي منطقة الأمان.و الشرنقة، هي بداية التحوّل، أي إمكانية الوصول إلى هيئة، فكرة، صورة، معرفة جديدة .. الشرنقة هي منطقة التأمل، التعلم و التحرّر. و الأخيرة الفراشــة التي توحي لنا بالحرية، النباهة، الحكمة، الخبرة المتراكمة، والنور الذي يمحق الظلمات فهي من يسعى لتحقيق الكامن، عبر رحلة الوعي المتجدّدة ...
تمثل هذا العمل الخزفي في مجموعة من الأعمال الفنيّة، وهي منحوتات قمت بتجسيدها سنة 2015، تُحاكي مراحل خروج الشرنقة، و اعتمدت في نحتها على تقنية التمليس بالطين الأبيض الممزوج بالطين البنّي، و تبلغ أبعادها 60×25 ×7صم.
كما ان عملية انتقاء المادة الخام لا تتحقق إلا بفعل التقنية التي تقود حركة المادة داخل المنجز الخزفي حتى إتمام الخطوات النهائيّة في الإنتاج الفني، حتى نستطيع أن نقدم خاماته البنائية في أعلى قيمة تقنية وجماليّة حال ظهورها في العمل الخزفي. فالمادة لم يقف دورها كونها مادة تصير لتشكيل شيء، بل يتعدى ذلك لكونها وسيلة استنطاق للعمل وذلك بملمس الجسم الخزفي ولونه وبفعل تقنيات تحضير الطينة وتقنية طلاء السطح الخارجي بالأطيان والألوان و الاكاسيد.
ففي هذا العمل المتسلسل، نلاحظ تطور مراحل حياة المرأة-الشرنقة، التي تبدأ بتشكيل كرة خزفيّة مُستوحاة من بيضة «دودة القز» التي تقوم بدورها بتصنيع خيوط الحرير. و تجسد لنا الصورة الرابعة «اليرقة» وهي مرحلة تبقى فيها في حالة سبات إلى حين حلول فصل الربيع. أما الشرنقة فهي تنسج حولها الحرير وتعيش خاملة داخلها مدة أسبوعين، وتتحوّل إلى فراشة.
لأنها تتشكل كالفراشات من شرنقة ملفوفة بغموضها التكويني إلى فراشة تحاول فك لغز الوجود مع تيقظ الوعي٬ واشتعال العاطفة ونفحة الوجدان العابق بانصهارات تستثير الحواس الفنية المصقولة « بهدوء التماثيل يجلس٬ فيما الزمان ينام على ركبتيه كطفل صغير٬ وتلهو الفراشات نشوانة٬ عند مرمى ابتسامته الخالدة.» تُثير فينا هذه النبرة الفلسفيّة التي نتحدى بها موت الجسد الأنثوي داخل هذه الشرنقة، مستخدمين أداة الجزم المرتبطة بسكون رمزي نعيده إلى العدم المثير.
إن الخروج من الشرنقة يحمل في حدّ ذاته إمكانيّة التّرحال في خصائص الأشياء وتفاصيلها التي استأثرت بولع الأنثى، فهي تستأثر من وسائل التخبئة و التورية، ومواربة القصد، ومحاولة قراءة الأشياء دون ذكر أسمائها، و هذا ما يجعل رؤيته متميّزة و مذهلة، وهذه الأقنعة التي تلتفّ به «الشّرانق»، تُحقّق من المُتعة والإغراء ما لم يحقّقه العاري المكشوف، هذا ما يتميز به جسد المرأة الذي يمثّل لدى بعض الفنانين، الوتر الذي تضرب عليه في تحقيق البؤرة الساخنة المحقّقة لغايات جمالية و غيرها. كما يقول ميرلوبونتي: « فجسمي، المرئي و المتحرك،هو في عداد الأشياء،إنه واحد منها، و هو يتشابك في نسيج العالم، وتماسكه هو تماسك شئ ما. و لكن بما انه يرى ويتحرك، فهو يمسك بالأشياء في دائرة حوله، و هي ملحقة به او امتداد له، إنها مغروسة في لحمهن وتكون جزءا من تعريفه الكامل، و العالم مصنوع من نفس نسيج الجسم.» تلك هي لحظات الرّغبة و الحريّة التي تتنازع عنها ضدّ هذه الشرنقة التي تلفّها و «تُقمّطها « كطفل صغير. تخرج منها كفراشة تروم التحليق في فضاء الحريّة . فكما يقول مارلوبونتي: «هذه المبادلات التي تتحقق بين الحضور و الغياب و بين الظهور و الاختفاء وبين الوجود و اللاوجود و بين المرئي و اللامرئي.» ، لأن عالم الفن يمتلك حساسية مُفرطة في مدى تفاعل المشاهد لما يحتضنه العمل التشكيلي بداخله من حكايات وأفكار وأسرار مخفيّة، تتطلب شيئاً كبيرا من التأمّل والتذوق والتفسير. و تُذكّرنا هذه الشّرنقة بصراع المرأة العربيّة و المُسلمة ضدّ المنظومات الرجعيّة والمؤسّسات الدينيّة الأصولية . تلك المرأة المعزولة بين سراديب المجهول، يضعونها بين جدران صمّاء ...
• التجسيد والتشخيص وأطوار التحول
إن السمة الغالبة في هذا العمل هو التجسيد و التشخيص، تتعشق في بواطنها رموز مراحل تكون الجسد-الشرنقة، وإشارات من الواقع،إذ يتكون النص الخزفي من هيئات مجسدة بهيئة امرأة في طور الولادة. تخرج من رحم البويضة ثم تتحرّر لتصبح كائن حرّ. يعانق هذا الجسد الأنثوي عالمه المجهول، يحتضن يديه رافعا برأسه إلى السماء في وضعيّة الروحانيّ المتصوّف. تنظر المنحوتة إلى أعلى، هناك عالمها الميتافيزيقي الذي يناديها لتلتحق به في ثنايا الحريّة المفقودة.
يحمل هذا العمل تصوراً طبيعياً مسكوناً بموت الإنسان وولادته في ذات الحين، كأن الفعل الجمالي لخطاب العمل ينقلنا إلى التبادليّة عبر خطاب التوجّس المخيف من المجهول لعله يسترجع حالة الانكسار التي تصيب الإنسان وهو يعي تماماً إن القيمة وراء تعبيرية نمط هذا العمل يحتوي إشارة لتأسيس متحوّل جمالي جديد ومغاير. فالفنان منذ بداية تأسيسه للعمل تتملكه فكرة التحول والتبدل،واضعاً تجربته الفنية إزاء اختبارات استعارية عالجت أطوار ذلك التحول من هيئة إلى أخرى،في محيط مكبل بالثبات إنها تحولات مصطخبة داخل معادلة تشخيصيّة مغايرة، في مسعى للخروج من نظام الشكل الخزفي التقليدي إلى منجز خزفي اقرب للنحت بتنويعاته المتجددة.
كما انتقينا في هذا العمل الخزفي، مراحله المتسلسلة بحذر وابتسار شديدين، فهي لا تتعدى حدود الهيئة البشرية مع إضافات متحولة ومختلفة مثلت مناخ العمل الفني،إلا انه من خلال تلك التباينات،استطعنا أن نتخلص من حدود العزلة التي يعيشها الإنسان و المرأة تحديدا، بانطلاقها في أرجاء التشخيص وإذابة العلاقات الفنية الطينيّة،إذ انه هنا عالجنا التحولات عبر مدخلين،جو صارم يصور الهيئة البشرية داخل محيط معّرف،وإدماجاً أكثر تحرراً يستعيد فيه متعة التبادلية مع فن النحت،بتخلصنا من هيمنة التحديدات التي فرضتها رؤيا تلك التقنيات، نرى أنفسنا أمام أفق مفتوح يفتح الباب أمام تبادلية الفنون بمعناها التعبيري الأقرب إلى التشخيص، فهو يتقدم من لحظة اعتصار الداخل في عالم ساكن (فضاء خارجي) إلى لحظة احتدام الداخل الفسيح في فضاء (يخصنا نحن) وليس خارجياً.
و نحن أمام هذا العمل، نجد آلية التقابل تضع بنيتها في عمل لا يتجذر قصرياً،بل ينساب نحو مفهوم التحرّر ليعرب عن إيديولوجيّة فنية تسوق بالفكر لاكتشاف مجهول مستقبلي هدفنا منه التركيز على خصوصية التحوّل،إذ نجد ثمة جدل واضح بين الحضور والغياب..المرئي واللامرئي..الخفاء والتجلي..المُعلن والمسكوت عنه.. فللمنظومة التخيلية الهائلة فظاءاتها الازاحية لكل ما هو متضايف.. إنها تقوض البنى الراكدة لتتشظى بنى أخرى بتركيبات تبادلية،تحرض المتلقي وتستفز كل ما هو متباين ومختلف من الأعمال الفنية،وما هو مخفي وراء تلك الأعمال لتتيح معاني ورؤى جديدة مبثوثة بالكلية والتحول والتنظيم الذاتي لينفرد أسلوب يحدث تعرجاته وبصماته التي لا تتكرر مع الآخر.
• خاتمة:
إذا ما تعمقنا في تحليل مسار تجربتي الخزفيّة، سنلاحظ حتما أن العلاقة التي تربطني بالطّين هي علاقة حميمة وذلك منذ بدايات العمل الأولى، وبوسعنا أن نلمس ذلك العشق، من خلال ارتباطي بهذه المادّة وقدرتها على استفزاز خيالي في ملمسها وطواعيتها، إذ الطّين عندنا مادّة حياة نصوغ منها فكرنا، ويضمّنها رؤيتنا، في الوقت الذي نمارس فيه أقصى درجات التّحدي للسّيطرة عليها، حيث وجدنا ضالتنا في المادّة الأولى (الطّين)، يمكن أن نلمس ذلك من خلال هذا «الهجين» المتحوّل، نحاول به أن نعكس صورة المرأة عبر إعطاء قيمة تعبيريّة مزدوجة للمادّة الخام بأشكالها المجرّدة، مستوحين أشكالها من الطبيعية أو من الحيوان أو من خلال الموجودات الطبيعيّة. كما لا يجب أن ننسى أيضا الدلالات و المفاهيم، التي بني عليها هذا العمل ليكون خزّانا معرفيّا ومساحة يتحرّك منها الخيال، محلّلين كل مرحلة فيها ومشكَلين تراكيب جديدة تمتلك روح المعاصرة. و نثير بداخلها العديد من الأسئلة الوجوديّة والآراء الجماليّة والتناقضات.
• المراجع:
- يحيى حسب الله، كلام الأخرس وبصيرة الأعمى مقالات في الفن التشكيلي،دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2015.
- موريس ميرلو- بونتيّ، العين و العقل، ترجمة الدكتور حبيب الشاروني،(استاذ فلسفة بجامعة الاسكندرية)، منشاة المعارف بالإسكندرية.
- محمد العبيدي، أثر البيئة الاجتماعية والموروث الحضاري في الأسلوب الفني، الحوار المتمدن-العدد: 2832 - 2009 / 11 / 17.