تابعت البارحة شهادات بعض المتضررين من النظامين السابقين لزمن ما قبل الثورة. ولفتت انتباهي شهادة جلبار نقاش. وتعاطفت مع كل الشهادات الجارحة التي تقطر حزنا..
ومع ذلك حزنت كثيرا لغياب شهادة كانت ستكون مدوية لغة وفصاحة وخطابة وسردا وغرابة وفداحة وتسامحا.. ولا أقصد غير شهادة الشاعر والفيلسوف والكاتب الحر سليم دولة الذي تم الاعتداء عليه بكسر عظم الساقين ورميه للقطط والشوارع..
الهيئة قصّرت لأني اعرف في تركيبها شاعر المفروض أنه يعلم وأنا على يقين أنه يعرف ذلك وأدار وجهه عن حقيقة الكاتب التونسي الوحيد الذي لم يستفد ولم يتمعش من أي نظام بما في ذلك بعد الثورة.
وسليم أيضا مقصر في حق نفسه لأنه متسامح أكثر من اللازم و متزّهد أكثر من اللزوم.»
غاب سليم دولة الذي كان سيقدم صورة ناصعة عن تونس وقدرات رجالها فكرا وساعدا، قلبا وقالبا.. أمام العالم..
لكن على رأي مظفر النواب عندما يقول: «لقد كان حفلا أمميا، إنما قد دعي النفط ولم يدعو العراق.» هكذا كتب السيد الشاعر الشاب و هذا ما كتبت له.
(2)
(عطفا على ما كتبه السيد الشاعر وليد الزريبي في شأني مشكورا )
تحية تليق بالقامة والمقام وبعد:
شكرا على الإشارة و الوفاء وفكرة الوفاء . صدقا أيها السيد الشاعر أنا لم اتقدّم لأية جهة بما في ذلك»هيئة الحقيقة والكرامة» لأطالب برفع الظلم عنيّ و إعادة الاعتبار ... لي شخصا ونصا وعائلة وإرجاع حقوقي المنهوبة من «وزارة التربية «مثلا وسواها ... يتملكني خجلٌ بدوي وأرستقراطي كذلك وأيضا, جين استحضر الشهيدات والشّهداء رغم أني شوارعي أحيانا وأعلم علم الدائخين واليَقظين عمْق الحكمة القديمة التي تنصّ على « أن من كَثُر حياؤه قلّ رِزقه » وأنا ثريّ جدا ورزقي قليل, ومتماسك. وسعيدٌ أحيانا لأمر بسيط هو كوني لم أبع قلمي ولا أصدقائي و صديقاتي لأحَد ولم أساوم على حُريتي كتابة وضميرا دون مزايدة على أحد «بحـُبّ الله» أو «بـحُبّ الوطن» ماعُون الخدمة لدي الكثير من الخلق والخلائق. حين أفكر أن أحكي عن تفاصيل ما حدث لي أحس بخجل وارتباك من أجل السيد الوطن ويا للمفارقة, لأنّ أعْين كل العالم على مَرايانا . المشْكلة هي أننا حين نتكلم عن « الحقيقة » فلْنقل كلّ «الحقيقة ».. أو لا نتكلم أصلا صونا لمفهوم الحقيقة ذاته ,آه كم جُرعة من الحقيقة يمكن للجسد التونسي العمومي العام أن يتحملّ؟ .لو تكلمت قد لا يستطيع الكثير من الخلق أن يتحمّل ذلك... وللهول لا يستطيع كثير من الناس أن يصدّق ذلك ... ان ما كان يُتَعْتِعُ روحي ليس ما تعرضت له من قبل أجهزة «الدولة» القمعية و«الحزب العتيد» من شــجّ في الرأس وكسْر في الرِّجل اليُمنى واليد ... ومحاولات اغتيالي أكثر من مرة دهسا بسيارة وحَرق منزلي عليّ ذات فجر ... وإتلاف مخطوط روايتي ( أحلام اليونان وعاشق الكتب المالينخولي»... كما مخطوط ديواني.
(«حين كنت حيا في تونس مررت قرب حياتي») وتكسير كامل جهاز الكومبيوتر في الشارع وأمام المارة مرتين وإتلاف كل رسائلي بيني وبين الكتاب العرب... بما في ذلك رسالة رائعة من محمود درويش وغيرها من الفيسلوف / الانتروبولوجي علي زيعور .. والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري الذي يشكرني فيها لأني أول من كتب عنه وعرّف بمشروعه في «الملحق الثقافي لجريدة الشعب كما في مجلة» أطروحات» المقبورة بكل أسف ورسالة - وثيقة مهمة جدا من السوري الرائع هاشم صالح المقيم في باريس كما ضاعت رسائلي العاطفية والمعرفية ومقالات ودراسات ومحاضرات لم أنشرها وباختصار لم يحُزَ في نفسي أن سلطة بلادي حزّت مِعْصَمي وأتلفَت تلافيفا من محتويات ذاكرتي الحِبرية ..وخرّبت حتى صيدليتي العاطفية وهددتني السيدة السلطة في ابنتي الوحيدة في الكون ... وهو ما لا يعرف غير من كانوا أصدقاء السكن والقلب ... ما عذّب نفسي ولا يزال انما هو استعداء السلطة السياسية حتى لبعض أساتذتي في الجامعة و لمن كنت أسميهم أصدقائي ضدي والذين كانوا يعترفون قبل» الحدث النوفمبري» السياسي وقبل انقلابهم العاطفي ضدي وضد أنفسهم رأسا وزادت» الحرب الكونية» على العراق العظيم قد حفرت الهُوة بيني وبين الكثير منهم مرة واحدة وإلى الأبد أنا الذي لم أزر العراق إلا بعد «خراب البصرة « وعلى حسابي الخاص سنة 1999/ 2000 هُم الذين كانوا يرْتعون لسنوات طوال في «أرض السّواد « ويُعربدون في «مدينة المنصور» بغداد ... كانوا يقولون عني بأني « مُعلمهم « قبل انقلابهم ذاك وأنهم « خرجوا وتخرجوا من بين أصابعي « .. وحين دارت العقول والقلوب جهة المال وطلب الجاه أصبحوا أعدى أعدائي ومنهم من طالب حرفيا « بنفيي إلى الجنوب لأتعلّم أصول التربية « نعم هكذا ؟ لقد كانت السلطة السياسية النوفمبرية في بعض سنواتها أكثر أريحية وديمقراطية معي من الكثير من المثقفين / الكتاب والشعراء التونسيين أشقائي في الحبر والمحنة والنشيد الوطني . لا أخفي أني صَفعتُ أكثر من كاتبٍ منهم و من «مستشار في وزارة الثقافة «حين كثروا عليّ بالنميمة والنّكد والاستفزازات المكرورة ...
(2)
ذات مرّة كنت في «دار الكاتب»
وكنت قد اتيت من قفصة لتونس في زيارة خاطفة للعاصمة وإذا بأحد فناني تونس الكوميديين كان يجلس بمعيّة مستشار في وزارة الثقافة ينهض من طاولته بتحريض سافر أكيد من جليسه الممثل التلفزيوني والكاتب المسرحي والمستشار في تلك الوزارة يضع عقب سجارته في قهوة ضيف يجالسني اتى من مدينة سليانة بحثا عن الشاعر الكنعاني المغدور» عبد الحفيظ المختومي رحمه الله, فعل ذلك ليستفزني أنا وفعلا ذلك ما كان ... فقلت للحاضرين من يعرف رقم هاتف «قصر قرطاج.؟ « فأجابني النادل الجنوبي واسمه نبيل : أنا عندي الرقم « فاعطيته دينارين وقلت له: صرّف واطلب لي رقم «قصر قرطاج « وكان الوقت حوالي التاسعة والنصف ليلا . ركّب نبيل النادل الرقم وإذا بصوت الطرف الآخر يقول من ؟ قلت له «قصر قرطاج» ..؟ قال لي نعم . قلت له أنا مواطن تونسي اسمي سليم الازهر دولة رقم بطاقة تعريفي الوطنية 030636.... أريد أن أكلم السيد الرئيس لأمر يعنيني وقد يعْنيه..أجَاب الطّرف الآخر :هل أنت أستاذ الفلسفة أنا والله نجحت بكتابك .. قلت له شكرا . أريد السيد الرئيس أريد أن أكلم السيد الرئيس . فقال والله قد خرج منذ نصف ساعة وأقسم لي برأس أمه . قلت له: طيب أنا سوف أترك له رسالة صوتيّة ويعنيني ان تُسمعه إيّاها . وهذه هي الرسالة حرفيا وبكل أمانة :
«أهلا بالسيد الرئيس أنا سليم الأزهر دولة أستاذ فلسفة وكاتب تونسي حر أطلب منكم بكل لطف الأمر بالكفّ عن مضايقتي في المكتبات وفي الشارع وفي البارات لئلا أجدني مضطرا أن أكتب في تونس ما لا يليق بحجمها و بقامتها ومقامها معذرة السيد الرئيس على الازعاج والسلام «وبعد حوالي الشهرين تقريبا اتصل بي بوزيان السعدي الكاتب التونسي رحمه الله وقال حرفيا» آش عملت للرئيس؟
وأنا عندها كنت قد نسيت المسألة ؟ قلت له أي رئيس ؟فقال زين العابدين .فقلت له: من أنا لأفعل له شيئا فصمت بوزيان السّعدي رحمه طويلا - وهو الذي لم تكن علاقتي به سهلة في البداية - ثم قال أنت محظوظ فالسلطة لا تحبك لكنها تخشاك ؟ قلت له أنا لا أملك جيشا وليس ورائي أي حزب ... فقط لي أصدقاء في الحبر ورفاق متفرقون في شتات اليسار المشتت لا غير ...فقال لي أنت معك محبة التلاميذ والطلبة وهم جيشك الذي لا تَعرف أنت متهم بتأليب الكتاب الشبان ضد السلطة ... لم أقل شيئا ثم صمت قليلا وزاد « ردّ بالك على روحك من بعض الأصدقاء , لقد أمر السيد الرئيس بعدم إزعاجك في الشارع والمكتبات والبارات » ..فأدركتُ ما أدركتُ...
(4)
قد تكَفّلت بي بعد ذلك بسنتين تقريبا» عصابات التجمع الدستوري الديمقراطي» و بعض مثقفيه فكان ما كان من « أدوات» الفصل عن العمل والتجويع والتشريد ...وما يتبع من قلة حياء حضاري لا يليق بتونس شعبا وتاريخا وان هو تاريخ « مِـحن». أنت تعلم أيها السيد الشاعر وليد الزريبي أني لست استعراضيا نضاليا ولعلك تذكر انهم حينما حرقوا علي بيتي وكنت في وضع صحي ونفسي لا يُشرف الوطن أمام الضيوف أو حين كنت مكسور الرجل اليمنى أعرج ذات «معرض كتاب» قلت لك اذا سألك أي ضيف من ضيوف تونس من الكتاب العرب قل لهم انه بخير وانه في الجنوب بقفصة في بيت أمّه وخاصة اذا سألتك أحلام مستغانمي التي لم أرغب أن أفسد عليها مناسبة عيد ميلادها في تونس وتكريمها من قبل ليلى بن علي . وفعلا زارتك في الجناح في معرض الكتاب ذاك صحبة وزير الثقافة واهديتها نسخة من ديوانك « ليه يا بنفسج » الذي كان لي شرف تقديمه . وما حدسته كان في مكانه اذ سألتك عني فقلت لها أنت: انه في الجنوب . هكذا كان ما كان: «فليه يا بنفسج فعلها بنا الياسمين»؟
آه التسمية الأخرى «للياسمين» تناسبني أكثر وهذه التسمية هيّ «السِّجِلاّطُ» ؟
(5)
دمت حرا أيها السيد الشاعر في وطنك الحر ووردة تليق بالقامة والمقام وما أبلغ وأبلغ عبارة شهيد دير العاقول/ المتنبي « تكسرت النّصال على النّصال» . غايتي أن أغيب في كتاب الكون الأبدي وأنا وان نقصتُ وزنا واتزانا أظل أساويــني: كاتب حرّ على نفسه مع نفسه بنفسه ( لا يـَرشفها لأحد) كما يقول أكبر شاعر حين يغْضب فيضرب باللسان... وحين يطرب فيَرص ... ومن أقْصد غير الشارع . تقول الحكمة الصينية يا صاحبي:
«قريبة جدا هي دائما طريق الواجب غير أن الإنسان يبحث عنها دائما بعيدا عنه « ويقول فرسان اللغة كما ورد في كتاب (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي) لإبي منصور الأزهري( ص 40). ( القرن 3/4 هجري) :
«اُلْأَزَمُ :هو الإمْسَاكُ عَنْ اُلْطّعَام واُلْشّرابِ ومنه قيل للحِمْيَةِ أَزَمٌ ومنْه قيلَ لسنَة اُلْجَدْبِ : أزمَةٌ ومنْها أَزَمَ عليْنا اُلْدّهْرُ اذا اشتدّ أمْره وقلّ قَطْرهُ وخيْره . وأزمَتْ الدّابَةُ على اُلْلّجَامِ اذا أمْسَكَتْه بِلِسَانِها كَأنّها تعَضّهُ.ومنْها دابةٌ أزومٌ كثيرةُ القبْض على لِجَامِها بأسْنانِها «وقد سكَت أبو منصور عن «الأوَازم» وهي «الأنْياب»... التي منْها عِبارة نوائب الدّهر.. فأرجو ألا تعمل السلطة العَضُوض « معنا أنْيابها مرة أخرى ...وان عادت عدنا ... نحن أهْلها.