فقد أصبحت حركات المشوهين للبيئة في عيون الغالبية، وصمات تلاحقها نظرات الاستهجان، في انتظار الردع القائم على تدخل شرطة خضراء، تكرس موقفا جمعيا صارما، لم يعد يقبل باستمرار المهزلة.
لم يتح للكثير من عشاق الوطن في لحظات الجرائم اليومية المستبيحة عرض الخضرة ومساحاتها الهشة المحدودة، لا حيلة لمن ينكر ما يرى، لأنه ببساطة، ينعت، بحاج كلوف وأكثر.
المسألة ثقافة إذن، والثقافة السائدة للأسف لا تحرض على تحرك عفوي لامشروط يزجر المخالف، ويثنيه حتى قبل إلقاء فضلاته، وقطع الشجر، والبناء في الملك العمومي المشترك مثلا.
والثقافة لا تولد بين عشية وضحاها بقرار من سلطة ما، ومن يرى ذلك واهم وذو نظر قاصر.
غير أن الطريق نحو تفعيل دور الثقافة، يبدأ الآن، من خلال تحركات هنا وهناك لكافة الفاعلين، المؤسسات الرسمية تعد لخطط بيئية متنوعة، مفتوحة لتدخل الأطراف المجتمعية، والمنظمات والجمعيات بدورها، تبادر لإعلان مواقفها، كما تم مؤخرا في صفاقس وقرقنة وقابس ومنزل بورقيبة مثلا، ورفع رايات: قف يا تلوث، وكفى وتقدم مقترحات ومشاريع وبدائل ممكنة.
في ذلك السبيل تعد جمعيات مشاريع الاستسماد والتثمين والرسكلة وصناعة حاويات وأكياس بمواد غير ملوثة، كحلول لأزمات النفايات بأصنافها.
الإشكال يخص ثقافة سائدة في المجتمع لتراكمات واعتبارات معقدة، والحل في تشكيل رؤية جماعية والشروع في تغذيتها عبر مساهمات مكثفة من الجميع وفي اتجاه مشترك، والجمعيات البيئية أدركت ذلك جيدا وهي تتحرك على نفس الطريق.
وبناء الثقافة المساعدة على سلامة البيئة وتوازنها واستدامة التنمية لأجيال الحاضر والمستقبل تقتضي مع التشريعات والمؤسسات ، على غرار هيئة التنمية المستدامة وحقوق الاجيال القادمة، الجاري بلورتها وتفعيلها بمشاركة هامة للمجتمع المدني ،كذلك ممارسات بديلة عن تلك السائدة، وهو ما تكرسه عمليا مئات الجمعيات والمجموعات المواطنية التونسية التي تؤكد حقا أن التونسيين ، يملكون نخبا من عامة الشعب ، وقادة فعل ورأي بيئي، من سواد المتساكنين ، المؤهلين للتكفل بواقعهم ومحيطهم، وتغيير وضعيتهم وفق رؤاهم المشتركة,
وهذه الرؤى تعتمد رصيدا حضاريا يستلهم قيم المجتمع واصوله المدنية الراقية، ويستحضرها، برغم مظاهر الفوضى وتيارات الإخلالات الجارفة، المكتسحة للشارع، على طريقة الأمر الواقع.
فمع ما لوحظ من تراجع قدرات البلديات في الضبط والمراقبة مع التدخل اليومي في مجال النظافة، وجد البعض أرضية ملائمة لغنم ما يشبع جشعهم على حساب المصلحة العامة، وبدت ضرورات مراجعة جذرية لمفهوم المواطنة وقواعد الانتماء.
على قاعدة أن النظافة، تؤسس لها ثقافة تنبض بها مكونات المجتمع، ويحملها الأفراد والمؤسسات، فإن الجمعيات والقوى المتمركزة في مختلف مفاصل المجتمع، وأجهزته مطلوبة لتعبئة طاقاتها وصرفها في اتجاه إعادة بناء الذهنية السائدة بعيدا عن الأنانية المفرطة،والجميع ، بما في ذلك أجهزة الاعلام والاتصال، مطلوب لأن يسهم في بناء مشروع تربوي ثقافي يعيد تأصيل قيم النظافة واحترام الآخر وتقديس المشترك، كبوابة لإنجاح بقية الخيارات والخطوات المنتظرة والتي لا تقل عنها أهمية.
إن للمثقفن وللمربين وغيرهم دور مهم في المرحلة الراهنة من أجل بلورة وتجسيم رؤية واضحة عن تونس الخضراء الممكنة، وجهة نظر أخرى غير تلك المتوارثة في سياق المصلحة الفردية الضيقة، من أجل وضع أرقى، حال تونس يظل أكثر من مأمول.