تتعايش في كنف منظومة عجيبة عرفتها واحتنا في زمن وثقه المؤرخون..
وألهمت الواحة ابن الشباط رسالة في الهندسة، أوضح فيها نظريّته في توزيع المياه. حيث أنّ التقسيم الثّلاثي ثمّ السّداسي انطلاقا من كلّ ثلث هو إنجاز روماني لا محالة ويكمن فضل ابن شبّاط إذن في بعث نظام توزيع يبدأ من حيث وقف الرومان ويصل بذلك إلى ريّ جميع بساتين توزر كلّ حسب حاجته. وقد بقي هذا النظام قيد الاستعمال حتى اليوم .
وتعرف الواحات منذ مدة تهديدات جمة آخرها تغير المناخ، وإشكالات الري، وتراجع الإقبال من المزارعين ، ونقص اليد العاملة المختصة في الجني.
ونظرا للأهمية البيئية والاقتصادية والاجتماعي وحتى الثقافية للواحة، توجب مغادرة موقف الفرجة والحياد والتحرك المتناسق المخطط قصد إنقاذ هذه الثروة المهددة، ووقف نزيفها المتأتي من عديد الآفات، وهو ما بدأ مع مشروع النهوض بالواحات التونسية بدعم من البنك العالمي ، وتستمر مقاربته بعد نجاح المرحلة الأولى، برؤية إقليمية تنفتح على فضاء يضم نحو 350 ألف هكتار من الثراء الطبيعي والزراعي المتفرد.
ففيها تنوع بيولوجي عجيب، والتمور وحدها نحو مائتي صنف لا يعرف منها المستهلك العادي أكثر من ثلاث أو أربع أولها دقلة النور، والبقية يهدد الإهمال بقاءها، لولا تدخل البنك الوطني للجينات مع معهد النخيل بدقاش ومعهد المناطق القاحلة.
وفي الفضاء الواحي المتنوع، من جبلي إلى صحراوي إلى بحري، مشاهد متعددة مبهرة، وموروث حرفي وزراعي، وبالأخص مجموعات سكانية تشكل الضامن الأول لبقائها وحيويتها بما يجدد ما بينها منسق المشروع محمد الزمرلي لدى توزيع جائزة ابن الشباط في دورتها الثانية، من أهمية دور الفلاح أولا وأخيرا في حلقات مشروع الإحياء والتثمين.
وعلى وتيرة الأمل في أفق استعادة بعض من ملامح ثراء المشاهد والمواقع الواحية ، يطالعنا نص لفريق إعلامي عربي جال في واحاتنا ودون ما يلي:
فكانت محطتنا الأولى عند واحة «نفطة» بوابة الصحراء للقادم من الشمال، وتبدو وكأنها سجاد مخملي بسطته الطبيعة على عتبات الصحراء، حيث يتدفق فيها الماء من عيون طبيعية ثم ينساب في سواقي صافية تروي الواحة الجميلة المزدانة بأنواع النباتات المختلفة.
وتعتز «نفطة» بتاريخها التليد فهي نبطية الرومان، وإحدى مدن الخوارج التي تأسست فيها دويلات عديدة وكانت عاصمة الإباضية، كما تحتفظ بطابعها الصحراوي. وتحتل موقعا فريدا، بيوتها الصهباء تربض فوق سلسلة من الربي التي تعلو الواحة وتطل عليها وقد برزت من خلالها قباب الجوامع الناصعة البياض والمآذن السنية.
وتذكر نفطة زوارها بصنعاء والكوفة حتى منحتها مدارسها النحوية لقب «الكوفة الصغرى»، وبها زاوية أبي علي السني العالم الكبير في المذاهب السنية، وخرج منها «الخذر حسين» الذي طبقت شهرته الآفاق حتى احتل منصب شيخ الأزهر، ومنها انطلق أهم كتاب وشعراء تونس من البشير خريف حتى الميداني بن صالح الذين ترجمت أعمالهم لعدة لغات.
أما المحطة الثانية فكانت واحة «توزر» المدينة الإسلامية التي تعانق قبابها ومآذنها السماء، وهي ممتدة على أكثر من ألف هكتار، يحلو لزوارها التجوال الطويل بين ظلالها الوفيرة ونخلها ومياها الغزيرة والخضرة الداكنة وجداولها الفضية وأنسامها العليلة.
بها مائتا عين تروي اكثر من مليون نخلة.
وأهم ما يميز واحة «توزر» أن ماءها يتدفق في منطقة راس العين عند سفح ربوة تشكل ينابيعها واديا حقيقيا ما زالت عليه آثار سدود قديمة، كما استطاعت أن تحافظ على تقاليدها وأصالتها ولغتها العربية القريبة من الفصحى، كما تضم أطراف مدينة توزر أطرف حديقة حيوان في العالم، حيث جمعت في مكان واحد كل نماذج الحيوانات الصحراوية من الغزال الجميل إلى العقرب الخطير.
هي واحة تتميّز بجودة تمورها, متاخمة للصّحراء ممّا جعلها قبلة للسّائحين قصد التّمتّع بالرّمال الذّهبية و أشعّة الشمس على مدار السّنة.مناخها شبه جاف وحارّ صيفا ومعتدل في بقيّة الفصول.
واحة توزر في تونس تمثل نموذجا للواحات التاريخية في عالم سياحة الواحات .وواحة توزر هي واحدة من الواحات الأكثر تطورا من بين واحات هذا النوع. وتتوفر في توزر واحات مزدهرة زراعيا، وفيها حدائق خضراء على مدار العام وقرى بربرية فريدة مبنية على الطراز التقليدي، معمورة ومحافظ عليها بصورة جيدة جدا .
وإذا توغل السائح نحو الشمال الغربي لتونس يكتشف ثلاث واحات صغيرة تبدو كالجواهر المكنونة بين جبال شامخة وهي واحات الشبيكة وتمغرة وميداس، فواحة الشبيكة قابعة بين الرمال تشهد على تحولات الزمن، بنيت من حجارة وتربة تبدو عن بعد وكأنها علقت على حافة الجبل.
أما واحة تمغزة فتبدو وكأنها كتل من الصخر الصوان كأنها معلقة في الفضاء، يكتشف زوارها النخيل الباسق وشلالاتها وبساتينها وبيوتها البسيطة، وقد وجد علماء الآثار بها بقايا أدوات عصور ما قبل التاريخ من آلات صيد ودفاع.
بينما تصمد واحة «ميداس» بين جبلين مرتفعين عاريين، واقفة على واد حفر في الصخر، وفيها يجد محب الآثار قطعا من الحيوانات البحرية التي يرجع تاريخها إلى ملايين السنين
بينما المحطة الثالثة واحة «قفصة» فهي عاصمة الجنوب الغربي، وهي مدينة ذات ماض عريق، تشهد على أصلها الروماني عدة آثار مازالت قائمة رغم تقلبات العصور كالمسبح العتيق وأطلال الحمامات، كما يقف جامع قفصة الكبير شاهدا على رسوخ الحضارة الإسلامية بأروقته التسعة واسطوانته الجميلة.
تزخر واحة « قفصة» بشتى أنواع الأشجار المثمرة، وتحوي حوالي 300 ألف نخلة، كما اشتهرت بزرابيها وسجادها الزاهي الألوان، كما يجد السائح متعة في امتطاء القطار الأحمر العتيق وهو قطار الملوك تذكر مشاهدته بأفلام رعاة البقر.
أما المحطة قبل الأخيرة فهي واحة «دوز» معقل قبائل المرازيق التي اشتهرت بشجاعتها وجديتها، حيث تعتبر متحفا صحراويا بسبب حفاظها على العادات والتقاليد الصحراوية الراسخة في القدم، وتشتهر باحتضانها لمهرجان الصحراء الذي ينظم في شتاء كل عام واصبح مشهورا عالميا، حيث يكتشف الزوار كل عادات وتقاليد الصحراء من صناعات وفلكلور وغناء وطقوس ضربت جذورها في العهود القديمة.
وتكتمل رحلة الصحراء التونسية بزيارة الواحات البحرية وهي واحة «قابس» التي تشكل مكانا فريدا في العالم إذ على أرضها يتعايش النخل المنسوب إلى الصحراء مع البحر الأزرق، وتمتد بها واحات النخيل كالعذارى مختالة على ضفاف البحر.
ويعد وادي قابس شريانها الأساسي حيث يروي أكثر من مليون نخلة تغطي مساحات شاسعة من البساتين حيث تنبت أشجار الحناء، كما تنقسم إلى حيين عتيقين كبيرين هما جارة والمنزل وفي داخل واحاتها تسع قرى.
وتنبعث من واحة «قابس» رائحة أشجار الحناء التي اشتهرت بزراعاتها، كما بقيت قابس محافظة على علامات تاريخها التليد عندما كانت ميناء الصحراء ومحط رحال القوافل ومنها تنطلق الرحلات الطويلة إلى السودان والتشاد وبلاد الطوارق.