برج بابل: انتخابات نَرجَسيّات الفوَارِقِ الصُّغرى

هل حُسم الدور الأول من الانتخابات الرئاسية عبر فوارق كبرى في الاتجاهات وفي الأفكار؟ هل تُعبّر نتائج هذه الانتخابات

عن المسافات الماكرو – سوسيولوجية بين الأغنياء والفقراء مثلا أو بين المهمشين من جهة وبين المُدمجين من جهة أخرى؟ وهل كانت وراء هذه النتائج الأوّلية كُتل سوسيولوجية واسعة الامتداد تَمترسَت كل واحدة منها خلف توجه سياسي وإيديولوجي؟ ما هي الفوارق التي على أساسها ذهب الناخب لإعطاء صوته؟ وكيف يقرأ الناخبون نتيجة انتخابهم؟

الإجابة الأوّلية عن هذه الأسئلة هي أن الفوارق الصُغرى وليست الكُبرى هي التي حسمت ما حصلنا عليه من نتائج. والفوارق هنا لا تعني أبدا فوارق في الأصوات، فالمسألة ليست في العدد ولا في النِسب التي حصدها كل مترشح. المسألة متعلقة بما يحمله الناخب في ذهنه وما يتَمثّله عند القيام بالفعل الانتخابي. والتَمثّلات التي ظهرت إبان العملية الانتخابية وبعدها والتي جعلت دوافع الناخبين تتّجه في أغلبها إلى بناء خارطة من المقارنات بين المترشحين، وتعتمد هذه الخارطة في جُلّ عناصرها على ضبط ما يمتلكه كل مترشح من رصيد لدى ناخبيه. وتصبح المقارنة وكأنها كشفُ حساب يعرض خصال كل مترشح، وتتنوع هذه الخصال من طريقة الكلام إلى الشكل الظاهري للمترشح، إلى ماضيه وإلى علاقته بمحيطه المهني أو العائلي وإلى جِديته أو تسيُبه وإلى صِدقِه من عدمِه وإلى نرجسيته أو تواضعه وإلى محبّة الناس أو كُرههم له. تبدو هذه الفوارق من فصيلة الفوارق الصغرى المختلفة عن الفوارق الكلاسيكية بين يمين يسار، بين إسلامي وعلماني أو بين ليبرالي ومحافظ. الخصال الشخصية للمترشح أخذت تدريجيا مكان المرجعيات الإيديولوجية والسياسية للمترشح، مما يجعلنا

نستنتج أن شخصنة الانتخابات أو فَردَنتها هي المنطق السائد الذي به يبني الناخبون اختياراتهم. وتتحول الشَخصَنة هنا إلى تمرين في المقارنة، هل المترشح يُشبهني؟ هل أتقاسم مع المترشح نفس الأحاسيس أم لا؟ أو هل أن المترشح يمثل لي نموذجا أطمح للوصول إليه؟ هل يتكَلم نفس اللغة التي أتكلمها وأفهمها؟

لا ينفصل هذا التوجه الانتخابي عن التحولات المجتمعية، إذ أن الانتخاب سلوك اجماعي يكشف عن رغبة الأفراد الملحّة في إعادة تموقعهم الاجتماعي وبشكل أكثر فردانية. لقد تحولت مرجعية هؤلاء الأفراد من مرجعيات كليانية، ماكروسوسيولوجية إلى مرجعيات فردية تقودها المقارنات بين الأفراد في محيطهم الضيق والمحيط العائلي والمحيط المدرسي والمهني ومحيط الجيرة ومحيط الصداقات والمعارف والأتراب ومحيط ما تقدمه شبكات التواصل الاجتماعي من سرديات الأفراد اليومية والمنشورة بعناية للتدليل على التفوق والنجاح واستثمار لحظات التميز على أنها انتصارات ذات معنى. يريد الناخب الفرد أن يجعل من العملية الانتخابية التي يشارك فيها شأنا يعنيه بشكل مباشر وأن المسافات التي كانت بين المترشح والناخب، وهي مسافات صنعتها الإيديولوجيا والمشاريع الكبرى وكذلك السرديات الكبرى بدأت في التقلص تدريجيا لفائدة الأفكار البسيطة والعابرة وفي بعض الأحيان تكون على درجة من التفاهة، ويكون ذلك بسرديات صُغرى مليئة بالأحاسيس والعواطف تسمح لهذا الناخب الفرد بأن يُحدّد اختياراته. إنه ناخبٌ فرد ٌيضع مسألة تقديره لذاته صلب العملية الانتخابية ويبحث عنها بالمقابل لدى المترشحين، وتقوم عملية الفرز إذن على قاعدة اتساع المسافة أو ضيقها بين نرجسيات المترشحين ونرجسيات الناخبين. هناك هِبَةٌ وهِبَةٌ مُضادة في علاقة الناخبين بمرشحيهم، وكلما كان هذا التبادل للهبات متوازنا كلما كان ذلك في فائدة المترشح والناخب على حدّ السواء.

عندما نقرأ نتائج الدور الأوّل من الانتخابات الرئاسية من زاوية نرجسيات الفوارق الصُغرى وكيفية إدارتها فإننا نقف عند ملاحظة أوّلية وهي أن المُتَصدّرين الإثنين لنتائج هذه الانتخابات هما اللذان نجحا أكثر من غيرهما في تقليص المسافات بين النرجسيات. وهذا يعني أنهما تمكّنا من جعل مكانتيهما الانتخابية غيرُ بعيدة بالمرّة عن مكانة كل ناخبٍ فردٍ. فعندما يُعوّل المترشح نبيل القروي مثلا على مُلصَقاتٍ انتخابية تُظهرُه وهو يَحتضِنُ نساءً كادحاتٍ وفقيراتٍ فإنه بذلك يُعلن عن اختلاط رَوائِح بشريةٍ من آفاق اجتماعية متباعدة جدا، إنّه تمكّن بهذه الصورة التي مَثُلت في أذهان الناخبين من جعل الفوارق بين النَرجَسيات ليست ذات دلالة، هناك تقاسم للنرجسيات إذا. وينطبق نفس الأمر ولكن بشكل مغاير على المترشح قيس سعيّد الذي لعب هو الآخر على تقليص المسافة والفوارق بين النرجسيات بخطاب وممارسة تنِمُّ عن تَعففٍ وبساطة مثل رفض التمويل العمومي والقيام بحملة متواضعة من حيث البَهرج قرّبتهُ كثيرا من ناخبيه وجَعلتهُ مثل غَريمِه يجدُ قبولا لدى المقهورين والمستائين من الشباب ومن الفئات الاجتماعية الفقيرة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115