كتاب "أنا الشعب": تشريح للظاهرة الشعبوية في علاقة بالسلطة والديمقراطية

بدر السلام الطرابلسي*
تقديم
عرفت الشعبوية ، كظاهرة سياسية مستحدثة، امتدادا في العقدين الأخيرين على الجغرافيا السياسية الدولية حيث كان ظهورها

الأبرز في دول أمريكا اللاتينية مع وصول الساسة الشعبويون للحكم مثال السياسية الأرجنتينية كريستينا كريشنر لرئاسة الأرجنتين (2007-2015) وقبلها الزعيم اليساري والرئيس السابق لفينزويلا هوغو شافيز (1999-2013) وخافييير بولسورانو في البرازيل (2019-2023) وفي أمريكا الشمالية دونالد ترامب رئيس السابق للولايات المتحدة (2017-2021) وفي أوروبا حركة خمسة نجوم وزعيمتها جورجيا ميلونيا رئيسة وزراء إيطاليا، وقبلها سلفيو برلوسكوني، وغيرهم من الزعماء والحركات السياسية الشعبوية التي وصلت للسلطة من خلال حملات انتخابية واتصالية غير تقليدية مثلما هو الحال مع الرئيس الحالي للجمهورية التونسية قيس سعيد.
وصنّف الفيلسوف الفرنسي برنار مانان Bernard Manin في كتابه مبادىء الحكومة التمثيلية الحكومات التمثيلية Governments representatives لثلاث أصناف: البداية كانت مع الديمقراطية البرلمانية ثم تلتها الديمقراطية الحزبية ومنذ نهاية القرن العشرين ظهرت ديمقراطية الجمهور، وهي نوع مخصوصا من الديمقراطية تفقد فيه الأحزاب –كحمّالة لأيديولوجيات وبرامج ورؤى سياسية ومعبرة عن التعددية والاختلافات داخل المجتمع- بريقها لصالح رؤساء الأحزاب والزعماء ويصبح الجمهور الذي تؤثر فيه وسائل الاعلام التقليدية والجديدة (التلفزيون، الميديا الاجتماعية...) هو المحدد لوصول السياسيين للسلطة بناء على العرض الاتصالي الذي يقدمونه ومدى نجاحهم في اختبار الأداء.
في هذا السياق، ترى الباحثة الايطالية في الفلسفة السياسية وأستاذة العلوم السياسية في جامعة هارفرد الأمريكية، نادية أوربيناتي، Nadia Urbinati ، في حديث للشبكة المعرفيةLa vie Des Idées أن ديمقراطية الجمهور هي الشكل العصري للشعبوية. مبررة قولها بأن هذه الأخيرة تعتبر شكلا من أشكال انتهاك الديمقراطية التمثيلية أو كذلك الحكومة التمثيلية1.
وقد أوضحت أوربيناتي في كتابها "أنا الشعب: كيف حولت الشعبوية مسار الديمقراطية" (مطبعة جامعة هارفرد) خصائص الزعيم الشعبوي، وعلى أية أسس تقوم الفكرة السياسية للشعبوية كتيار سياسي حديث في الحكم والمعارضة. وفككت كذلك الاستراتيجيات السياسية والحكومية للشعبويين التي تهدف حسب الباحثة الايطالية إلى السعي نحو البقاء في الحكم لأطول فترة ممكنة والاقتراب من حدود الحكم السلطوي المغلق.
نبذة عن سيرة الكاتبة
أستاذة كرسي للنظرية السياسية في جامعة كولومبيا وتعد من أبرز منظري الفكر السياسي المعاصر ، بتأملاتها ونظرياتها في الديمقراطية والليبرالية. ولدت في 26 جانفي 1955 في ريمني بإيطاليا. في عام 1989 ، حصلت على درجة الدكتوراه من معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا. وهي أيضًا مواطنة أمريكية متجنسة.
معرفتها بالشعبوية والحياة السياسية الإيطالية ساعدها على فهم وتحليل الظاهرة الشعبوية.
تعتبر أوربيناتي إحدى الأصوات المرجعية في النقاش حول الشعبوية على المستوى الدولي ، وقد تحدثت في كتبها ومؤلفاتها وحواراتها عن خصوصيات الشعبوية في الحكم والمخاطر التي تنطوي عليها على الديمقراطية التمثيلية.2
في عام 2008 ، منح الرئيس الإيطالي، جورجيو نابوليتانو، أورباناتي وسام الاستحقاق من الجمهورية الإيطالية "لمساهمتها في دراسة الديمقراطية ونشر الفكر الليبرالي والديمقراطي الإيطالي في الخارج."
حصل كتابها Mill on Democracy على جائزة David and Elaine Spitez Prize لأفضل كتاب في النظرية الديمقراطية.
وصف كتاب "أنا الشعب"
يعتبر كتاب نادية أوربيناتي "أنا الشعب: كيف حولت الشعبوية مسار الديمقراطية" من أبرز كتب الفكر السياسي المعاصر التي تناولت التيار السياسي الشعبوي بالتحليل والنقد، إذ يعتبر مرجعا لا غنى عنه للباحثين والدارسين في العلوم السياسية والديمقراطية .
النسخة المترجمة للعربية من الكتاب هي الطبعة الأولى لسنة 2020 ترجمها عماد شيحة لصالح دار الساقي للنشر اللبنانية . وتتكون من 336 صفحة ومن مقدمة و04 فصول وخاتمة.
صدرت أوربيناتي كتابها بمقولة "إن مسار "الصيرورة" والتحول بالنسبة لنظام ديمقراطي هو حالته الطبيعية"، نوربير تو بوبيو، The Future of Democraty (مستقبل الديمقراطية).

أهم الأفكار الواردة في الكتاب
• الزعيم الشعبوي والشعب: التجسيد بدل التمثيل
ترى أوربيناتي أنه بفضل حملة انتخابية متلاعب بها للقادة الشعبويون والتي تشهد كذلك تواطىء من المنظومة الاعلامية السائدة، يصل الزعيم الشعبوي المنتخب للسلطة في تماثل غير نقدي مع الجماهير التي انتخبته وأوصلته للحكم 3.
من هنا تبدأ مسيرة الالتحام الروحي للزعيم الشعبوي مع جماهير والبدء بالتحدث باسمهم انطلاقا من صفته كممثلهم السياسي الوحيد، وهم يجسدون الشعب الموحد والمتجانس و "الصالح" و"الحقيقي" الذي يجدر حكمه وتسيير شؤونه في مقابل "الفئة الضالة" و"الخاطئة" و"المتآمرون" .
هذا بالرغم من وجود خلفيات واتجاهات سياسية وايديولوجية وهويّاتية مختلفة يمكن ان تجمع كل المساندين والناشطين تحت رداء الجماهير الانتخابية الشعبوية التي تدعم الزعيم الشعبوي وتلتف حوله في المحطات الانتخابية والسياسية التي يمر بها سواء خلال حملته الانتخابية أو خلال فترة حكمه. مثال في تونس هنالك لفيف من اليساريين والقوميين والمحافظين والمستقلين يدعمون الرئيس قيس سعيد في الحكم مثلما ساندوه خلال حملته الانتخابية.
ولكن إعلان الزعيم الشعبوي أنه تجسيد لإرادة الشعب وليس مجرد تمثيل ديمقراطي لها محدود في حيز زمني معين يمكن أن يتجدد مرة أو مرتين على أقصى تقدير، و"إن الزعماء والأحزاب الشعبوية في السلطة لا يكتفون بمجرد الفوز بالأغلبية؛ هم يبتغون سلطة بلا حدود، ويريدون البقاء في السلطة أطول مدة ممكنة".4.
بحسب أوربيناتي هنالك شيء من "اللاهوت السياسي" في علاقة "التجسيد" بين الزعيم الشعبوي ومريديه لاقتران التجسيد بمعنى الحلول الإلاهي في الانسان ، وفي الحالة الشعبوية فهي تعكس حلول الزعيم الشعبوي في الشعب الذي يسانده. تقول أوربيناتي "تمثل الشعبوية المعاصرة علمنة للاهوت السياسي للتجسيد بوصفه هوية وتجسيداً جمعيين". فهم إذا التعبير الخالص عن إرادة الشعب. وهذا ما سيضعه فوق المحاسبة والمساءلة لأنه ملك للشعب وجزء لا يتجزأ منه ولا يتحمل مسؤولية أفعاله وقراراته لأنها –بعمليات حسابية مختزلة- صادرة عن الشعب في نهاية الأمر، فـ"هو الشعب" كما قالت الكاتبة.
طالب الزعيم الفينيزويلي الراحل هوغو شافيز (1954-2013) في إحدى خطبه بالولاء المطلق (lealtad absoluta) ، معلنا "أنا لست نفسي، أنا لست فردا، أنا الشعب..." و "لا ينقذ الشعب إلا الشعب، سأكون أداتكم"5 . كتجسيد مطلق لإرادة الشعب التي حلت به ويعمل وفقا لقدسيتها السياسية والمعنوية.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قال كذلك في إحدى خطبه مساء انتصاره بالفوز الرئاسي " قال أن من انتصر ليس هو، وزعم أن من يتكلم أيضا ليس حتى هو: الشعب فاز بالبيت الأبيض والشعب كان يتكلم عبره تلك الليلة " . هذه هي حسب أوربيناتي رمزية التمثيل بوصفه حلولا أو تجسيدا للشعب صاحب السيادة، وهو البديل الأكثر جذرية للتمثيل التفويضي. 6.
الشعبوية والسلطة و الديمقراطية
تقول الكاتبة أن "المطلب الأساسي لجميع الحركات الشعبوية هو التخلص من مؤسسة الحكم أو أيا كان يفترض أن يقع بين الزعيم الشعبوي وزمرته (الشعب خارج أجهزة صانعي القرار) وبين الدولة (داخلها، منتخبين، أم معينين)". وهذا المطلب يدخل في صلب المضامين السياسية النظرية للشعبوية التي لا ترى من جدوى في وجود وسائط من أي نوع بين الزعيم الشعبوي ومريديه سواء كانت احزاب أو نخب سياسية أو وسائل إعلام. بل إنها تعتبرها من ضمن المنظومات القديمة "الفاسدة" التي قضت الانتخابات (الاستفتاء على الشرعية بالمفهوم الشعبوي ) أنها خارج أجندة الشعب وان صلاحيتها انتهت ويجب أن يقع تجديد في الطبقة السياسية، بعد القضاء على النخب "الفاسدة" والأحزاب "الانتهازية" والاعلام "المتآمر" و "والمرتزق".
تبدو الشعبوية مناهضة للأحزاب، لكنها في نهاية المطاف، "تدفع باتجاه نوع جديد من التمثيل، قائم على علاقة مباشرة توحد الشعب بزعيمه". وتبدو الانتخابات بالنسبة للشعبويين نوعاً من "الاحتفال" لـ"الشعب" بانتصار الزعيم. حيث إن الشعبوية تستخدم الانتخابات كاستفتاء. وبذلك هي تشوّه الانتخابات"7 .
بالنسبة لأوربيناتي ، الشعبوية هي تشويه سياسي للديمقراطية بطريقة ماكرة ومخاتلة . إذ تمثل ظاهرة معقدة ، وبما أنها حركة سياسية وشكل من أشكال الديمقراطية التي يقابلها الديمقراطية المباشرة، فهي تعمل بمكر مع الديمقراطية لأنها تسعى لتغييرها من الداخل وليس القطيعة بطريقة مكشوفة مع المنظومة الدستورية لها. فهي تعهد لهيئات (شعبوية) غير منتخبة بالمداولات، أو عدم السماح بالانقسمات الحزبية داخل المؤسسات المنتخبة8. كما تعتمد على معايير من خارج العملية السياسية، وذلك للحكم على شرعية الديمقراطية "الحقيقة" و "الشعب" .
في الحالة الشعبوية، هذا التشويه المقصود للديمقراطية ينتج عنه "تصحيح أحادي للديمقراطية" (من قبل الزعيم الشعبوي) لأنه يأتي عبر عملية توحيد للشعب وتبسيط التعددية والاستقطاب للحلبة السياسية . الشعبوية إذا تصنع مسارا خطيا عموديا حقيقيا للسلطة وتؤسس لسياسة الشخصنة 9.

خاتمة عامة واستنتاجات
بحسب المنظّرة السياسية نادية اوربيناتي، فإن الشعبوية اتجاه سياسي قائم الذات في الواقع لكن لا أسس ديمقراطية له بمعنى الديمقراطية التمثيلية التشاركية والتداولية وإنما يجد له روابط سياسية في ديمقراطية الجمهور التي تعتمد على الميديا والعرض الاتصالي الفرجوي .
وفي الوقت الذي يرى فيه الشعبويون أنهم يؤسسون لمذهب جديد في السياسة والاجتماع إلا أن قاعدتهم الفكرية والنظرية ترتكز على معلومات وأفكار وحقائق هي في أغلبهم "هراء" كما يصفها هاري فرانكفورت H.Frankfurt في كتابه On Bullshit.
وفي ذات السياق، فإن فهم اوربيناتي للشعبوية (وربما هنا تكمن أهمية مساهمتها) تتجسد في من خلال الموشور Prisme الابيستمي دوكساDoxa (وهي المعلومات العامية والأحكام المسبقة والقيمية غير المثبته علميا) ، ففي حين ينحى الابيستيميون لاستبدال دوكسا بالمعرفة الموضوعية الحقيقية ، فإن الشعبويون يصنعون من آراء البعض الشخصية رأيا متجانسا مفروض إنه يعبر عن إرادة الشعب في كليته 10.
ومما يفهم من مضمون كتابها "أنا الشعب" Me The People ومن كتب أخرى Democracy Disfigured أن التحول الذي تحدثه الشعبوية في الديمقراطية اعتقادا منها أنه تحوّل من داخل المنظومة إنما هو تحوّل سياسي يحدث كنتيجة منطقية لتحولات سياسية متوازية في الميديا والاتصال والمؤسسات الحزبية، ولكنه ليس نتيجة نهائية أو حتمية وإنما شكل من أشكال أمراض الديمقراطية وأزماتها.
*صحافي وباحث في الاتصال السياسي

المصادر
عربية
4- نادية أوربيناتي: "أنا الشعب: كيف حولت الشعبوية مسار الديمقراطية"، ص 174.
5- المصدر السابق، ص195.
6- المصدر السابق، ص196.
7- عقيل سعيد محفوض، الميادين،
https://www.almayadeen.net/arts-culture/%D8%A3%D9%86%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8:-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AD%D9%88%D9%84%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9
- نادية أوربيناتي: "أنا الشعب: كيف حولت الشعبوية مسار الديمقراطية"، ص148
فرنسية
1- Hélène Landemore : La vie Des Idées , La démocratie représentative est-elle réellement démocratique ?
https://laviedesidees.fr/La-democratie-representative-est-elle-reellement-democratique
2- Alice Fill : le grand continent, Les populistes au gouvernement en temps de pandémie, conversation avec Nadia Urbinati
https://legrandcontinent.eu/fr/2020/05/18/nadia-urbinati/
3- Hélène Landemore : La vie Des Idées , La démocratie représentative est-elle réellement démocratique ?
https://laviedesidees.fr/La-democratie-representative-est-elle-reellement-democratique
8 - Marianne Fougère, Nadia Urbinati, Democracy Disfigured. Opinion, Truth and the People, Cambridge, Londres, Harvard University Press, 2014,
https://www.cairn.info/revue-raisons-politiques-2015-1-page-111.htm
9- Source précédent
10- Source précédent

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

تعليقات9

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115