محطة الطاقة الشمسية الفولطاضوئية بالقيروان 100 ميغاواط من الجرأة ... فهل تبدأ تونس استعادة سيادتها الطاقية؟

لم يعد الحديث عن الطاقة الشمسية في تونس ترفًا بيئيًا

ولا شعارًا ظرفيًا يُستحضر عند الأزمات، بل أصبح مسارًا تفرضه التحولات الاقتصادية والمالية العميقة التي تمر بها البلاد. فمع ارتفاع كلفة التزود بالطاقة، وتفاقم عجز الميزان الطاقي، وتزايد الضغوط على المالية العمومية، بات الانتقال نحو الطاقات المتجددة خيارًا واقعيًا أكثر منه طموحًا مؤجلًا. في هذا السياق، تكتسب محطة توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية الفولطاضوئية بالمنطقة الصناعية المتبسطة من ولاية القيروان، التي دخلت منذ يومين حيّز الإنتاج دلالة تتجاوز حدث التدشين، ليعكس ملامح تحول تدريجي في طريقة إدارة ملف الطاقة في تونس.

تعيش تونس منذ أكثر من عقد على وقع اختلال هيكلي في منظومتها الطاقية، يتمثل أساسًا في تراجع الإنتاج الوطني من المحروقات مقابل ارتفاع مستمر في الطلب على الكهرباء. هذا الوضع عمّق التبعية للخارج، خاصة في ما يتعلق بالغاز الطبيعي، ورفع من كلفة الدعم، وأثقل ميزان المدفوعات، ليصبح الملف الطاقي أحد أبرز نقاط الهشاشة الاقتصادية.

أمام الواقع الطاقي الحرج، لم تعد الحلول الظرفية كافية، بل برزت الحاجة إلى إعادة صياغة المزيج الطاقي على أسس جديدة، يكون فيها الاستثمار في الطاقات المتجددة أحد الأعمدة الرئيسية، لا فقط لتقليص الكلفة، بل أيضًا لضمان استدامة التزود بالطاقة.

من مشروع تقني إلى إشارة اقتصادية

تُمثّل محطة الطاقة الشمسية بالقيروان، بقدرة 100 ميغاواط، نقلة نوعية من حيث الحجم والرمزي فهي ليست مجرد منشأة لإنتاج الكهرباء، بل مؤشر على انتقال تونس من مرحلة المشاريع النموذجية المحدودة إلى مرحلة المشاريع الكبرى القادرة على التأثير الفعلي في المنظومة الوطنية.
هذا المشروع، الذي ناهزت كلفة استثماره 250 مليون دينار، يعكس ترجمة لاستقطاب فاعلين دوليين وتمويلات متعددة الأطراف، في وقت تشهد فيه البلاد تحديات حادة على مستوى التمويل العمومي. وقد تم التأكيد، خلال موكب التدشين الذي حضرته وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة فاطمة الثابت شيبوب، على أن هذه المحطة تُعد الأكبر من نوعها في تونس إلى اليوم، ما يمنحها بعدًا مرجعيًا لبقية المشاريع القادمة.
يعتبر مشروع محطة القيروان لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية من اهم المشاريع الطاقية الضخمة ويمتد على مساحة تقارب 200 هكتار، ويضم حوالي 221 ألف لوحة فولطاضوئية، و هذه القدرة الإنتاجية ستمكّن من تأمين حاجيات ما يقارب 43 ألف مسكن تونسي من الكهرباء.
وحسب ما تم تأكيده خلال حفل التدشين فان للمشروع بعدًا اجتماعيًا وتنمويًا هامًا، إذ وفر خلال مرحلة الإنجاز أكثر من 800 موطن شغل، أكثر من نصف هم أبناء ولاية المنطقة.
ويُذكر أن لزمة إنجاز هذا المشروع أُسندت إلى شركة (AMEA Power) الإماراتية، الناشطة في مجال الطاقات البديلة والمتجددة في أكثر من 20 دولة حول العالم، والتي فازت بالمشروع سنة 2019 في إطار مناقصة دولية أطلقتها وزارة الصناعة والطاقة والمناجم.

الأثر الاقتصادي أرقام صامتة ولكنها حاسمة

بعيدًا عن الخطاب السياسي، تكشف المعطيات المرتبطة بالمحطة عن أثر اقتصادي ملموس. فمساهمة المشروع في تغطية حوالي 0,5% من الاستهلاك الوطني للطاقة الأولية لسنة 2024، وإن بدت محدودة، فإنها تكتسب أهميتها عند ربطها بتقليص واردات الغاز الطبيعي بما يقارب 22 مليون دولار سنويًا، وما ينجرّ عن ذلك من تخفيف الضغط على ميزان المدفوعات.
كما ينعكس هذا التحول مباشرة على الشركة التونسية للكهرباء والغاز، التي ستستفيد من اقتصاد سنوي يُقدّر بنحو 15 مليون دولار من مصاريف المحروقات، وهو ما يفتح المجال لإعادة توجيه الموارد نحو الاستثمار أو تحسين جودة الخدمات، في ظل وضعية مالية دقيقة تعيشها المؤسسة العمومية.
يتمثل أحد أهم رهانات الاستثمار في الطاقات المتجددة في كسر الحلقة المفرغة لدعم الطاقة. فمع كل ارتفاع في أسعار المحروقات عالميًا، تتسع الفجوة بين الكلفة الحقيقية للإنتاج وسعر البيع، ما يثقل كاهل الدولة. في هذا الإطار، تمثل المشاريع الشمسية الكبرى أداة عملية للتخفيف من هذا العبء، عبر إنتاج كهرباء بكلفة أقل وأكثر استقرارًا على المدى المتوسط والطويل.

ولعل أهمية محطة القيروان تكمن في كونها تُدرج ضمن رؤية أشمل لتدريج التحول، لا عبر صدمة مفاجئة، بل من خلال إدماج متصاعد للطاقات المتجددة ضمن الشبكة الوطنية، بما يضمن التوازن بين الاستدامة والاستقرار.

ديناميكية تتوسع وآفاق تتشكل

يُعد مشروع محطة القيروان الشمسية الأول ضمن حزمة مشاريع خاصة لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية بقدرة جملية تبلغ 500 ميغاواط، تمت المصادقة عليها في إطار نظام اللزمات، وتشمل خمس ولايات، وهي تطاوين بطاقة 200 ميغاواط، وتوزر بطاقة 50 ميغاواط، وسيدي بوزيد بطاقة 50 ميغاواط، والقيروان بطاقة 100 ميغاواط، وقفصة بطاقة 100 ميغاواط.
في الواقع لا يمكن قراءة مشروع القيروان بمعزل عن بقية المشاريع المبرمجة. فدخول محطات جديدة بقدرة 50 ميغاواط في سيدي بوزيد وتوزر حيّز الاستغلال، إلى جانب برمجة مشاريع أخرى بقدرة تناهز 600 ميغاواط في ولايات الجنوب والوسط، يعكس توجّهًا نحو تعميم الاستثمار في الطاقات المتجددة وربطه بالتنمية الجهوية.

كما أن إسناد مئات الموافقات المبدئية لمشاريع صغرى ومتوسطة يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية تنويع الفاعلين وعدم حصر الانتقال الطاقي في المشاريع الكبرى فقط، بل جعله مسارًا تشاركيًا يشمل القطاع الخاص والمجتمع المحلي.

التحوّل التدريجي والرهان الحقيقي

يبدو المسار في تونس أكثر تدرجًا وحذرًا مقارنة بتجارب بلدان مثل المغرب أو مصر، التي راهنت على مشاريع ضخمة منذ البداية، غير أن هذا الخيار، رغم بطئه النسبي، مكّن من تفادي بعض الاختلالات المرتبطة بالكلفة أو الضغط على الشبكات، وأتاح بناء تجربة قائمة على التوازن بين الاستثمار الخاص والمصلحة العمومية في هذا الإطار، تشكل محطة القيروان حلقة مفصلية بين مرحلة التأسيس ومرحلة التوسّع، بما يسمح لتونس بتعزيز خبرتها التقنية وتحسين قدرتها على استيعاب قدرات أكبر مستقبلًا.

إن دخول محطة القيروان الشمسية حيّز الإنتاج لا يُختزل في رقم أو قدرة مركبة، بل يعكس تحوّلًا تدريجيًا في مقاربة الدولة لملف الطاقة. فالشمس، التي ظلت لعقود موردًا غير مستغل بالقدر الكافي، تتحول اليوم إلى رافعة لإعادة التوازن الاقتصادي والمالي، وإلى عنصر استقرار في معادلة معقدة تجمع بين النمو والكلفة والاستدامة.ويبقى الرهان الحقيقي في السنوات القادمة هو تحويل هذا التوجه إلى سياسة عمومية متماسكة، قادرة على تسريع نسق الإنجاز، وتحفيز الاستثمار، وضمان عدالة مجالية في توزيع المشاريع. عندها فقط، يمكن القول إن تونس لم تكتفِ باستثمار الشمس، بل أحسنت توظيفها في خدمة مستقبلها الاقتصادي.

التجارب المقارنة

تكشف التجارب المقارنة، ومسارات دول الجوار والمتوسط عن القيمة الاستراتيجية التي يمكن أن تمثلها الطاقة الشمسية عندما تُدرج ضمن رؤية طويلة المدى. فقد نجح المغرب، على سبيل المثال، في تحويل موقعه الجغرافي إلى رافعة طاقية عبر الاستثمار المبكر في مشاريع كبرى مثل مركّب "نور بورزازات" ، ما مكّنه من تقليص تبعيته الطاقية وتعزيز جاذبيته الاستثمارية. أما مصر، فقد اعتمدت مقاربة تقوم على الحجم والسرعة، حيث أطلقت محطة "بنبان" بأسوان كأحد أكبر المجمعات الشمسية في العالم، مستفيدة من وفرة الإشعاع الشمسي وانخفاض كلفة الإنتاج..

وفي هذا السياق، تبرز الشمس في تونس كثروة طبيعية غير مستغلة بالقدر الكافي، إذ تتمتع البلاد بمعدلات سطوع تُعد من بين الأعلى في حوض المتوسط، خاصة في ولايات الوسط والجنوب، ما يمنحها قدرة تنافسية حقيقية في إنتاج الكهرباء النظيفة بكلفة أقل وعلى مدى زمني طويل. هذه الثروة، إذا ما أُحسن توظيفها، يمكن أن تتحول من مجرد مورد طبيعي إلى أصل اقتصادي استراتيجي، يخفف من التبعية الطاقية، ويدعم التنمية الجهوية، ويعيد رسم موقع تونس في الخريطة الطاقية الإقليمية. فالشمس ليست فقط مصدر طاقة نظيفة، بل فرصة لإعادة بناء توازن اقتصادي أكثر استدامة، شرط أن تُستثمر ضمن سياسة واضحة وثابتة تُحوّل الإمكانات الطبيعية إلى مكاسب فعلية.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115