بعد مصادقة مجلس نواب الشعب على الفصل الإضافي عدد 15 ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2026، ورغم أنّ المقترح موجّه، في ظاهره، لدعم صغار المطالبين بالأداء وتخفيف العبء الجبائي عليهم، إلا أنّ النقاشات الحادة التي رافقت التصويت تكشف أنّ هذا النظام يفتح أبواباً واسعة للتاويل وربما للجدل أيضاً.
في خضم الجدل الذي رافق المصادقة على الفصل الإضافي عدد 15 من مشروع قانون المالية لسنة 2026، تبرز تساؤلات جوهرية حول الفاتورة الحقيقية لهذا النظام الجبائي الجديد من هي الفئات التي ستستفيد فعلاً من الضريبة التقديرية؟ ومن قد يجد نفسه في خانة الخاسرين، سواء على مستوى العدالة الجبائية أو تنافسية السوق أو شفافية المعاملات؟
فالضريبة التي صيغت على أنها تخفيف للأعباء وتبسيط للإجراءات قد تخفي وراء بساطتها الظاهرية معادلات معقدة تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد، والمصلحة الفردية بالمصلحة العامة، والمداخيل المعلنة بالثروات الحقيقية. وبين السقف الموحّد للضريبة والإعفاء من المراجعة الجبائية لستّ سنوات، يبدو أن السؤال لم يعد تقنياً فحسب، بل أصبح مسألة ميزان قوى تتصارع حول من يعيد تشكيل قواعد اللعبة؟ ومن يُدفَع خارجها؟
مضمون النظام الجديد بين التبسيط والاختزال
يمكّن الفصل الجديد أصحاب الأنشطة التي لا يتجاوز رقم معاملاتها السنوي 100 ألف دينار والذين لا ينشطون في التوريد ولا تجارة الجملة ولا المهن غير التجارية ولا الوساطة من اختيار ضريبة تقديرية قارّة تقدر ب 4000 دينار لمن لا يتجاوز رقم معاملاتهم 50 ألف دينار، و5000 دينار لمن يتراوح رقم معاملاتهم بين 50.001 و100 ألف دينار،
مع تخفيض بنسبة 50% للأنشطة في الأرياف والقرى.
ويتضمّن النظام امتيازاً استثنائياً: الإعفاء من المراجعة الجبائية لمدة ست سنوات، باستثناء حالات الاشتباه في نمو غير مبرّر للثروة.
ورغم أنّ الإجراء يبدو في ظاهره خطوة نحو التبسيط، إلا أنه يطرح سؤالاً جوهرياً هل التقدير الموحّد قادر فعلاً على عكس الحقيقة الاقتصادية لمختلف القطاعات؟
ما بين العدالة الجبائية والاقتصاد الموازي
يطرح الفصل الإضافي عدد 15 ضمن مشروع قانون المالية انتقادات متعددة لعل ابرزها مخاطرة التساوي بين غير المتساوين من خلال فرض ضريبة ثابتة (4000 أو 5000 دينار) على مهن مختلفة تماماً في هوامش الربح وطبيعة النشاط مما قد يؤدي إلى اختلالات في العدالة الجبائية.
فمن غير المنطقي، اقتصادياً، أن تُعامل نفسياً مهنٌ ذات هامش ربح ضعيف مثل الصناعات التقليدية أو بعض الخدمات المنزلية، مع مهن أخرى قد تصل أرباحها الصافية إلى 40% أو أكثر.
ثانيا جاذبية النظام لغير مستحقيه من خلال إعفاء المراجعة الجبائية لمدة ست سنوات قد يشجع نسبة من العاملين في الاقتصاد الموازي على التحايل عبر إدراج أنشطتهم تحت سقف الـ100 ألف دينار بهدف التمتع بالنظام التحرّري.
وتثبت تجارب سابقة في تونس أنّ كلّ نظام جبائي "مبسّط" يتحوّل سريعاً إلى بوابة للتهرب… إن لم يُرافق برقابة صارمة.
ثالثا ضرب مبدأ المساواة مع الخاضعين للنظام الحقيقي فالحرفيون الصغار الملتزمون بالنظام الحقيقي ويصرّحون بمداخيلهم بانتظام من حقهم التساؤل لماذا يدفع البعض نسبة ضريبية منخفضة وملفّات غير مراقبة، بينما يتحمّل آخرون عبء التصريح الكامل والفحص الدوري؟
رابعا تخوّف من تحويل طبيعة الأنشطة حيث ان بعض المهن ذات الأرباح العالية قد تسعى إلى تفكيك نشاطها أو تسجيله بأسماء مختلفة لتفادي تجاوز سقف الـ100 ألف دينار.
هل نجحت الضريبة التقديرية في العالم
أدخل المغرب منذ سنوات ضريبة جزافية شبيهة تستهدف المهن الصغيرة، ولكن بعد سنتين فقط ظهرت عدة إشكاليات من بينها تسجيل انخفاض حادّ في التصاريح الفعلية، وتوسّع في القطاع غير الرسمي، واستغلال النظام من قبل أنشطة ذات أرباح عالية.
وعلى هذا الأساس تم تعديل النظام لاحقاً ليصبح أكثر دقة وربطاً بالمعطيات الرقمية من البنوك والموّزعين.
من جهتها اعتمدت تركيا نظاماً مبسطاً للضريبة، لكنه غير تحرّري ويجمع بين ضريبة جزافية ومراقبة دورية، مع إمكانية سحب الامتياز في حال توسّعت أنشطة المنتفع.
ما يعني أنّ التبسيط لا يُلغِي الرقابة بل يخفّفها دون أن يعفي منها بالكامل.
في فرنسا، النظام الميسّر قائم على نسبة مئوية من رقم المعاملات وليس مبلغاً ثابتاً، ما يسمح بعدالة أكبر بين الأنشطة المختلفة فأصحاب الأنشطة الحرفية مثلاً يخضعون لاقتطاع يختلف عن التجار أو مقدمي الخدمات.
خلاصة القول فإن الدروس المستخلصة من التجارب الدولية تشير إلى أن كل نظام ضريبي مبسّط يحتاج رقمنة و رقابة ذكية و تبادل معلومات.
الضريبة الجزافية الموحّدة تؤدي غالباً إلى إخفاء رقم المعاملات الحقيقي والتبسيط لا يجب أن يكون على حساب مبدأ الإنصاف الجبائي.
بين الحاجة إلى موارد والاستقرار الجبائي
قد يمثّل الإجراء فرصة لدمج جزء من القطاع الموازي عبر تشجيع صغار الناشطين على دخول المنظومة مقابل ضريبة منخفضة ومعلومة مسبقا. ضريبة في حدود 4000–5000 دينار قد تكون أقل بكثير من الأداء الحقيقي الذي كان يمكن استخلاصه لو خضع هؤلاء للنظام الحقيقي، ما يطرح سؤالاً حول أثر الإجراء على الميزانية.
إنعاش أنشطة صغيرة عبر تخفيف العبء الضريبة قد يدعم التجارة المحلية، لكنه يهدد المنافسة مع الأنشطة المنظمة التي تدفع ضرائب كاملة.
يؤكد تضمين مهن مثل المقاهي، ميكانيك السيارات، دهن السيارات، بيع اللحوم، والمرطبات ضمن النظام الحقيقي
أن المشرّع يعي جيّداً أنّ بعض الأنشطة لا يمكن بأي حال إدراجها ضمن الضريبة التقديرية نظراً لحجم الأرباح الكبير والهوامش الواسعة.
مسار إصلاح… أم خطوة مؤقتة؟
حمل الفصل اشارات واضحة تتراوح بين ترميم العلاقة بين الدولة وصغار المطالبين بالأداء عبر ضريبة مستقرة واضحة وإيقاف نزيف المراجعات الجبائية التي تُرهق الأنشطة الصغيرة وتدفعها إلى الاقتصاد الموازي وبين محاولة تسجيل نقاط سياسية عبر إجراء يُقدّم على أنه حماية للفئات الضعيفة.
لكن السؤال يبقى مطروحا هل التقدير الثابت بديل عن إصلاح جبائي شامل يضع كل القطاعات على قدم المساواة؟
الفصل الإضافي عدد 15 يمثّل محاولة لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة وصغار الملزمين جبائياً، لكنه يظلّ حلاً سهلاً وليس إصلاحاً عميقاً. فالعدالة الجبائية لا تتحقق بضريبة تقديرية ثابتة، بل بنظام ذكي يراعي الفوارق بين القطاعات ويركّز على الرقمنة وتبادل المعطيات ومتابعة الثروة الحقيقية للمنخرطين.
الإصلاح الحقيقي يبدأ عندما تتحوّل المنظومة الجبائية من مجرد مجموعة أنظمة إلى نظام واحد موحّد، شفاف، ورقمي، يختصر الإجراءات ويضمن العدالة بين الجميع.
إلى حين ذلك… يبقى الفصل 15 خطوة، ولكنها ليست بالضرورة الخطوة الصحيحة والأخيرة.