بين الردع والمرونة ما وراء تقليص الوجود الأمريكي في الجناح الشرقي لحلف الناتو

في وقت تتصاعد فيه التحديات الأمنية على أطراف أوروبا

أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن خفض جزئي لقواتها المنتشرة في الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، في خطوة بدت للوهلة الأولى محدودة من الناحية الميدانية، لكنها تحمل بين سطورها مؤشرات على إعادة تموضع أوسع في أولويات السياسة الدفاعية الأمريكية.

فالقرار وفق ما أكدت وزارة الدفاع الأمريكية، الذي طاول وحدات كانت تناوب انتشارها في رومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا والمجر، "لا يُعد انسحابا كاملا بقدر ما يعكس تحوّلا مدروسا في طريقة توزيع القوات الأمريكية داخل أوروبا"، في ظلّ ضغوط متزايدة على واشنطن لإعادة التوازن بين التزاماتها في القارة العجوز ومقتضيات المنافسة المتصاعدة في آسيا والشرق الأوسط.
رومانيا: لا انسحاب بل إعادة انتشار
وسعى وزير الدفاع الروماني، يونوت موستيانو، خلال مؤتمر صحافي في بوخارست أمس الأربعاء إلى تبديد أي انطباع بوجود تراجع في الوجود الأمريكي، مؤكدا أن بلاده أُبلغت مسبقاً بالخطوة وأنها "لا تعني انسحابا، بل وقفا لمناوبات فرقة عسكرية كانت تعمل بالتناوب في دول عدة شرق أوروبا".

وأضاف أنّ نحو ألف جندي أمريكي سيواصلون تمركزهم على الأراضي الرومانية، مشدداً على أنّ "القدرات الإستراتيجية لم تتغير"، وأن منظومة الدفاع الصاروخي في ديفيسيلو والقواعد الجوية في كامبيا تورزي وميخائيل كوغالنيسيانو ستظل تعمل بصورة كاملة، فيما وصف بقاء العلم الأميركي مرفوعاً في هذه القواعد بأنه "رمز لاستمرار الالتزام الأميركي".
تعديل تكتيكي ؟
وفي بروكسل، حرص حلف شمال الأطلسي على تأكيد أن الخطوة الأمريكية "لا تحمل طابعاً دراماتيكياً"، واصفا إياها بأنها "تعديل تكتيكي للوضع القائم". وقال مسؤول في الحلف إن الولايات المتحدة أبلغت شركاءها مسبقا بالخطة، مشيراً إلى أن وجودها العسكري في القارة لا يزال أكبر بكثير مما كان عليه قبل عام 2022، أي قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ويرى محللون أن هذه الخطوة تأتي في إطار تكيّف واشنطن مع مرحلة جديدة من إدارة الموارد الدفاعية**، حيث تسعى الإدارة الأمريكية إلى الحفاظ على قدرات ردع فعالة في أوروبا، من دون الاستمرار في نشر أعداد كبيرة من الجنود في مناطق محدودة. ويشير ذلك إلى تحول في فلسفة الانتشار الأمريكي، من التركيز على "الوجود الدائم" إلى "المرونة التشغيلية" التي تتيح إعادة نشر القوات بسرعة حيث تدعو الحاجة.
كما يربط مراقبون القرار بتغير البيئة السياسية داخل الولايات المتحدة نفسها، إذ تواجه إدارة الرئيس الأمريكي ضغوطا داخلية متزايدة لتقليص الإنفاق الخارجي وتوجيه الموارد نحو أولويات داخلية واقتصادية، في وقت تتجه فيه واشنطن أيضا إلى تعزيز حضورها العسكري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة النفوذ الصيني المتنامي.
بين التطمين والواقعية

بالنسبة إلى رومانيا، التي تمثل أحد أهم نقاط الارتكاز الأطلسية في البحر الأسود، يبقى الهدف الأساسي هو طمأنة الرأي العام والحلفاء الإقليميين بأن التزام واشنطن لم يتراجع. فوجود ألف جندي أمريكي ومنظومات دفاع صاروخي متقدمة، فضلا عن قواعد جوية نشطة، يشكل بحسب الخبراء "قيمة رمزية وإستراتيجية كافية للحفاظ على ميزان الردع مع روسيا".
في المقابل، يرى آخرون أنّ هذا التحرك قد يكون مقدمة لإعادة توزيع أوسع للقوات داخل أوروبا، بحيث يجري توجيه الموارد الأمريكية إلى مناطق تعتبرها واشنطن أكثر عرضة للتهديد أو أكثر أهمية استراتيجيا، مثل دول البلطيق أو بولونيا.ويُظهر القرار الأمريكي أنّ المرحلة التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 ،والتي تميزت بزيادة كبيرة في الحضور الأمريكي بأوروبا ، بدأت تدخل طوراً جديداً، عنوانه التكيف بدل التصعيد. فبعد ثلاث سنوات من التعزيز العسكري المستمر، يبدو أن واشنطن وحلفاءها باتوا يسعون إلى ترسيخ توازن طويل الأمد بين الردع والاستدامة، في ظل حروب متعددة الجبهات واحتمالات غير مستقرة في النظام الدولي.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115