يلتمس من شحرور السماء أن يقبل الرجاء ويتنحى قليلا ليتركنا أكثر مع صوت جميل الدخلاوي ! كيف لصوت جميل الدخلاوي أن يمتلك شجن أوراق الخريف في وداع أشجارها، وأن يأتي بعذوبة النسمات المنعشة في ليالي الصيف، وأن يحمل دهشة الغيمات وهي تتهادى فوق الصحراء القاحلة... كيف لصوت جميل الدخلاوي أن يتسع لكل هذا الجمال وأن يعزف على كل الآلات والانفعالات دون نشاز !
ونحن في غفلة عنه وعن صوته، بينما انصرف هو إلى مصارعة مرضه ووحدته، ورد الخبر الحزين مساء الاثنين 21 أكتوبر 2024 للإعلان عن وفاة جميل الدخلاوي، الصحفي المتقاعد من مؤسسة التلفزة التونسية عن سن ناهز 74 سنة.
كم من صوت يستقر في الأذن ويعرّف باسم صاحبه كأروع ما يكون فيغني عن الحاجة إلى التعرف على وجهه أو شكله... ! عرفت الأجيال صوت جميل الدخلاوي وأحبّت خامته ونغمته وطربت لسماعه... انتمى ابن معهد الصحافة وعلوم الإخبار إلى مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية والتحق بأسرة شريط الأنباء في مطلع الثمانينات. عمل جميل الدخلاوي محررا ومعدا ومقدما للتحقيقات التلفزية. كما أنتج العديد من البرامج التلفزية وساهم في إعداد الكثير من المنوعات... وكان سلاحه طيلة سنوات المهنة قلم ساحر وصوت رنّان !
تميز واشتهر جميل الدخلاوي في كتابة وقراءة التقارير الإخبارية والبرامج الوثائقية على غرار "الكاميرا تتجول" و"معالم" ...فأهدانا صوتا شجيا ومميزا منحه إعجاب الجمهور وكافآه بعديد الجوائز والتكريمات.
أن يلتقي جمال صوت جميل الدخلاوي مع عذوبة السمفونيات الخالدة في قراءة نصوص الوثائقيات عن المعالم والمتاحف والمدن... فمعناه متعة مضاعفة في الاستمتاع والاستماع بإيقاع الصوت والموسيقى. يبدو صوت جميل الدخلاوي بما يحمله من حيوية وكأنه يهب الجماد حياة وينثر العطر في جيوب الكلمات... فيصبح للمعنى تأصيل وكيان.
في الطريق إلى العالم الصوتي لجميل الدخلاوي تستوقفنا الخامة المميزة التي تحمل شجنا وحنينا فيتغير "لونها بين الحين والحين ، الفصل والفصل، الإحساس والإحساس.." تماما كما قال وقرأ ذلك جميل الدخلاوي في وثائقي ممتع عن قرية "بني مطير".
كيف لنا أن نضيف كلاما على صوت جميل الدخلاوي وهو الذي كان كمن يعزف على آلة الكمان نصوصه ويشدو بصوت الكروان جمله ... و"إن صدقنا في ذلك حدسنا" كما قال الراحل ذات مرة في وثائقي عن مدينة "غمراسن" فإنه من الصعب أن يجود الدهر مرة أخرى بصوت يشبه صوت جميل الدخلاوي !