او القومية او الإسلامية كان يمثل هويتنا الطلابية ، فاغلبنا كان يعتبر ان لامعنى لوجوده في الجامعة دون تقمّص أيديولوجيا تمنحه هوية، وكان كل تيار فكري يتوهم انه يحمل الحقيقة المطلقة ، ولذلك كان يعتقد في وجوب "التخلص" من بقية التيارات الأخرى عبر المغالبة ، فالتيارات الماركسية التي كانت أكثر تفتتا وانقساما ، كانت تعتقد أنها ، على اختلافاتها وصراعاتها العنيفة ،أحيانا ، تحمل "النظرية العلمية" التي لا تقبل جدالا ، مرجعيتها دائما ماركس وانجلز ولينين وستالين أو ترتوسكي و بعضنا كان يعتقد حتى في حاكم البانيا آنذاك ، أنور خوجة ، صاحب كتاب "الإمبريالية والثورة" ، اما التيارات القومية بشقيها البعثي والقومي الناصري ، فان بوصلتها هي "القيادات القطرية والقومية" التي تعمل على وحدة الامة العربية ، "من المحيط الى الخليج" وكان التيار الإسلامي الصاعد آنذاك ، بعد الثورة الإيرانية، يؤمن بقدسية أفكاره وتعاليها ، لان أُمته كانت أوسع واشمل ، فهي الامة الإسلامية التي تتجاوز "شوفينية" العروبة و"اغتراب" اليسار، لتبني العالم الإسلامي الطاهر على مبادئ العقيدة والدين ، امة تعيد أمجاد الفتوحات الإسلامية وعدل الخلفاء...
كان ما يجمع هذه التيارات، على اختلاف معتقداتها الأيديولوجية، هو ايمانها بامتلاك المرجعية الصحيحة، واستعدادها للدفاع عن حقيقتها السرمدية حتى "بالعنف الثوري" او "العنف المقدس"، مما جعلها ترفض الحق في الاختلاف والتعايش مع الاخر المتباين ...والغريب انه بقدر ما كان يزداد قمع السلطة للحركة الطلابية، بقدر ما يزداد الانقسام والتشظي والتحجّر في الدفاع عن "المبادئ".
لذلك كانت ساحات الكليات، أحيانا، مرتعا لأعمال العنف التي كانت تغذيها السلطة (أحيانا بحياد خبيث)، خشية من ان يتوحد الطلبة حول مطلبهم الشرعي، اتحاد طلبة مستقل يدافع عن المصالح الطلابية ويهتم، ولو ثانويا، بمشاغل البلاد ومستقبلها...
وان هدأ الصراع الدامي، داخل وخارج اسوار الجامعة، بعد ان تأكد الجميع ان الة القمع لم تستثن اي طرف ، ولكنّه ظل مؤجلا ولم يحسم على أساس القناعة بضرورة التعايش والحوار وخاصة الايمان بان فضاء الوطن يتسع للجميع، ورغم ان هناك محطات عديدة قد ارغمت المعارضة بمختلف اطيافها على الالتقاء حول بعض المواقف، لعل اهمها حركة 18 اكتوبر 2005،التي مهدت الطريق نحو توافق بين مختلف الأطياف السياسية والايديولوجية وكادت ان تفضي الى حوار مثمر يرسي قناعة بضرورة التعايش رغم الاختلاف ، فان انتفاضة 2011، قد اعادت الصراع الى الواجهة ، صراع بدا ظاهره سياسي ، لكنه في الواقع استرجع مشاحنات لم تحسم لتفضي الى معايشة ومساكنة وتسليم بحق الاختلاف. وإن لم تكن الانتفاضة التونسية من صنع اي تيار او طرف سياسي او مدني، ولم تكن تحمل أية ايديولوجيا بعينها، عدا شعارات الحرية والعدالة، التي التقت حولها اطياف عديدة من المجتمع، من الشباب المعدم في الأحياء الفقيرة الى النقابيين والحقوقيين مرورا بأصحاب الشهائد المعطلين والمحامين والطبقات الوسطى، فإن الصراع الأيديولوجي عاد بعد الثورة ليكون غطاء للإقصاء.
لذا تحول الانتقال الديمقراطي من تنافس سياسي حول حقوق المواطنة الاساسية (الحرية، العدالة، الكرامة) الى صراع ايديولوجي تحكمه ارهاصات فكرية وتمثلات، أعادت الماضي بكل منزلقاته واعاقت كثيرا امكانية انتقال ديمقراطي سلس، فهل ظلت الايديولوجيا ضامرة ومتحفزة تنتظر الارضية السياسية المناسبة لتقفز للعلن؟
في كتابه "الأزمة الايديولوجية العربية وفاعليتها في مازق مسار الانتقال الديمقراطي" الصادر سنة 2016 عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات يرى الباحث التونسي ، الاستاذ سهيل الحبيّب، ان السبب الرئيسي لإخفاق الايديولوجية العربية هو انها ،بكل أطيافها "اليمينية واليسارية والقومية والاسلامية لها مرجعية واحدة "، وهي نفي المواطنة الجامعة وتبنى الصراع المجتمعي "الفئوي الذي يجعل من الثورة في النهاية فرضا لارادة قسم من المجتمع على قسم اخر ، بوسائل العنف وأدواته" ، فمثلا لا يرى الاسلاميون انفسهم "حزبا" حديثا ، بل طائفة أو جماعة تحشدها "الهوية" ، في المقابل يرى اليساريون ان منعطف 2011، هو "ثورة طبقية" وبالتالي يغيب اي تصور مشترك لطبيعة المجتمع الديمقراطي المنشود.
طبعا، ما اشار اليه الاستاذ سهيل الحبيّب ليس العامل الوحيد الذي حوّل امل بناء مجتمع ديمقراطي الى يأس من نجاح اية تجربة ديمقراطية في المنطقة، فهناك عديد العوامل الاخرى، منها غياب الحوكمة وارتباك أداء حكومات ما بعد الثورة والاستهانة بالبعد الاجتماعي وعودة المنظومات السابقة، تحت مسميات عدة، لكن يظل السؤال الذي يخامر عديد المحللين في الداخل والخارج هو: هل حقا البيئة العربية غير ملائمة للديمقراطية وحقوق الانسان؟ وهل يمكن ان يعيش المواطن العربي في المستقبل القريب في ظل نظام ديمقراطي، توجد فيه تعددية حزبية وسلطات مستقلة وجيش محايد وامن جمهوري وتداول سلمي على الحكم؟
يطرح هذه الأسئلة جمال بويرويو ، الأستاذ والباحث بالجامعات الفرنسية في مجلة "لوبوان" الفرنسية بتاريخ 19 أوت 2021، ويوحي بان "المعادلة بين الديمقراطية والمنطقة العربية" تبدو مستحيلة الان، خاصة بعد إخفاق التجربة التونسية ، "التي أغلقت قوس الربيع العربي " وذلك لاسباب عديدة ، منها ان الديمقراطية لا تتحقق بالإرادة، ولا بالاستعداد السياسي الجيّد و لا أيضا بحسن النوايا فقط ، بل تستوجب "النضج الاجتماعي و مرجعيات حضارية وحاضنة ثقافية" وهو ما لا توفره البيئة العربية في كل مجالات الحياة، العائلة والمدرسة والشغل والحياة العامة والمناخ السياسي ، وهي عوامل محددة في مدى "قبول الانسان العربي بثقافة مختلفة وقيم الانفتاح والتسامح والقبول بالآخر المختلف."
صحيح ان للبئه الثقافية والتنشئة الاجتماعية دور مهم في ترسيخ القيم الديمقراطية والتربية على المواطنة وارساء قيم التسامح والعيش المشترك، وصحيح ايضا ان النخب السياسية في تونس لم تكن مثالا للممارسة الديمقراطية، سواء اولئك الذين حكموا او من عارضوهم، فكما لو كانت الثورة فرصة ، لا لترسيخ قيم العيش المشترك والتنافس النزيه حول الرؤى والبرامج وسرعة الاستجابة للمطالب الشعبية الملحّة ، بل كان مجال الحرية الذي وفرته مناسبة لانعاش صراعات الماضي بجزيئاتها وهوامشها ، وكأن المكبوت الايديولوجي كان في حالة اسبات وينتظر ربيع الحرية لينتعش، وان اخذ الصراع بعدا سلميا لان الساحة السياسية والمدنية لم تعد تقبل بالعنف الا انه ظل عامل إعاقة للانتقال الديمقراطي الذي كان يستوجب سرعة بناء المؤسسات وتحويطها والحفاظ على استقلاليتها الى جانب الانتباه الى هشاشة المرحلة ومخاطر الارتداد.
الخلاصة انه، بعد انتفاضة 2011، وُجدت اليات ديمقراطية في تونس، منها بناء بعض المؤسسات الدستورية وتكريس تداول سلمي على السلطة وانتخابات الديمقراطية وهامش من الحرية يسمح بالتعدد والنقد والبناء، لكن كل هذه الاليات لم تكن كافية اذ انها لم تؤسس لثقافة ديمقراطية حقيقية، الامر الذي مهّد للارتداد الذي حصل بعد 25 جويلية 2021، ارتداد هيأت له تظافر ثلاثة عوامل أساسية، فشل في إدارة المسألة الاقتصادية والاجتماعية، وصراع أيديولوجي/ سياسي متكلس وقطيعة حادة بين النخب السياسية والمدنية والشعب.