ماهية هذه الحكومة الوطنية. ومع ان مبادرة رئيس الجمهورية كانت واضحة في طرحها إلا ان السجال السياسي اخرجها من دائرة الثوابت التي بنيت عليها وهي ضرورة تشريك الفاعلين الاجتماعيين في حكومة « الإنقاذ الوطني» وهما الإتحاد العام التونسي للشغل والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة.
لماذا حكومة إنقاذ؟
بعد عام ونصف من تكليف حكومة الحبيب الصيد ورغم الجهد المبذول من طرف رئاسة الحكومة لم تتحسن اوضاع البلاد ولم يتحقق الحد الأدنى من المؤشرات التي تدل على ان هناك تقدما في تحقيق الأهداف التي ينتظرها المواطن التونسي بعد 5 سنوات من سقوط نظام بن علي. كل المؤشرات تدل على ان البلاد تتجه نحو مزيد من التأزم والغرق في مستنقع الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد تحولت البلاد من وضعية فساد الدولة في نظام بن علي إلى واقع الدولة الفاسدة بعد الثورة.
بعض مؤشرات التدهور تبرز بوضوح ان البلاد لا تمشي في الإتجاه الصحيح بل تمشي إلى التهاوي والفوضى.
المديونية العمومية:
قفز الدين العمومي من 25.6 مليار دينار سنة 2010 إلى 50.3 مليار دينار سنة 2016 وتشكل الديون الخارجية نسبة الثلثين في هذا الدين. ومع ان نسبة التداين تضاعفت في 5 سنوات إلا انها لم تساهم في تحريك الاستثمار ولا في تحسين القدرات التنافسية للإقتصاد التونسي بل تدهورت مرتبة تونس في سلم التنافسية العام من المرتبة 40 إلى المرتبة 92 بحسب تصنيف ملتقى دافوس. كما ان الدين العام يلتهم 51.9 % من الناتج الوطني الخام. بعبارة اخرى تدور عجلة الإنتاج في تونس لتخصص أكثر من نصف ثروتها لتسديد ديونها.
كتلة التأجير العمومي:
ارتفعت كتلة التأجير العمومي بنفس نسبة ارتفاع الدين العمومي وقفزت من 6.8 مليار دينار سنة 2010 إلى 13 مليار دينار سنة 2016. وهو مستوى لم يحدث تأثيرا على تحسن المردودية ولم يساهم في مكافحة الفساد ولم ينعكس على نسبة النمو التي انخفضت من 3.5 % سنة 2010 إلى 0.8 % سنة 2016 . وسبب ارتفاع الكلفة هو اولا تعاظم اعداد الموظفين العموميين – العدد يقارب 700.000 موظف - وثانيا تأثير الزيادات الحاصلة في اجور الوظيفة العمومية نتيجة المفاوضات الاجتماعية.
وأثر ارتفاع حجم الأجور في القطاع العام على توزيع الموارد المالية للدولة حيث أصبح الجزء المخصص للتصرف يلتهم 2/3 الميزانية والثلث الآخر يتوزع تقريبا بالتساوي بين خدمة الدين والاستثمار ما ألحق ضررا مباشرا بآلة الإنتاج التي لم تجد الموارد اللازمة لتمويل الاقتصاد ودفع عجلة التنمية.
الفساد:
كما أشرنا سابقا جاءت نتائج الثورة معاكسة تماما لتطلعات المواطنين في الإصلاح والعدالة الاجتماعية وتحقيق الرخاء الاقتصادي. وعوض تحقيق نقلة نوعية في محاربة الفساد أصبح الفساد يسيطر على أكثر من 50 % من الاقتصاد التونسي. ويسحب الاقتصاد الموازي إلى دائرته بنفس النسبة كل المساهمين في الدورة الاقتصادية. بحيث تتأثر موارد الدولة والسيولة المالية والتهرب الجبائي وتورط الإدارة وارتفاع الأسعار والتضييق على الصناعة المحلية والعمالة الهشة والانتصاب الفوضوي وعمليات تبييض الأموال وارتفاع أسعار العقارات، كل هذه المجالات تتأثر بنفس النسبة او اكثر. ومن فساد الدولة تحولت تونس إلى دولة الفساد أمام عجز مقصود أو غير مقصود في مكافحة هذه الآفة الهيكلية. ولا يمكن الحديث عن بيئة ملائمة للاستثمار الوطني او الأجنبي في ظل التقارير الدولية حول ظاهرة الفساد في تونس.
كما تجدر الإشارة إلى تحول مضموني لمفهوم الفساد حتى أصبح معضلة هيكلية. كنا نعرف الفساد انه خرق القوانين من اجل تحصيل منفعة شخصية بغير وجه حق. لكن الدراسات الأخيرة بينت ان مجالات مثل الصحة والتعليم قد طالها الفساد. مما يعني ان دواعي الفساد لم تعد تقتصر على تحصيل المنفعة الخاصة بل اتسعت لتشمل مجرد تحصيل الحقوق.
تدهور قيمة الدينار:
آخر المؤشرات الحمراء والخطرة هي تدهور قيمة الدينار في مقابل العملات الأساسية – اليورو والدولار-والذي بات يهدد التوازنات الكبرى للاقتصاد الوطني. هذا التدهور إذا لم تقع السيطرة عليه في أقرب الآجال قد يتسبب في ازمة هيكلية أخطر مما يتوقع البعض. انزلاق الدينار مقابل العملات الأساسية يهدد باندلاع موجة تضخم سيصعب السيطرة عليها وينتج عنها آثار يصعب تداركها في المدى القريب والمتوسط.
وقد فقد الدينار 27 % من قيمته امام اليورو من نهاية 2010 إلى جوان 2016 في خط بياني نحو الأسفل دون توقف.
وأولى نتائج تدهور قيمة الدينار هي ارتفاع المديونية العامة وارتفاع في عجز الميزان التجاري وبداية لموجة تضخم ذات نتائج غير متوقعة.
في حالة الاستقرار يمكن ان يؤدي انخفاض قيمة الدينار في دفع الصادرات لكن في حالة الركود وحالة توقف عجلة الإنتاج فإن هذا التدهور سيضاعف من الأزمة لأنه سينعكس مباشرة على ارتفاع تكلفة الإنتاج ويزيد من حدة تدهور المقدرة الشرائية. ونحن نعلم ان
التخفيض في قيمة الدينار سوف لن يؤدي مثلا إلى تحريك القطاع السياحي لأن مؤشر الإرهاب أصبح العنصر الأساسي في هذا القطاع. كما انه لن ينعكس إيجابا على التصدير بفعل تدهور مناخ الاستثمار الأجنبي وخسارة الصادرات لأسواقها التقليدية و تعطل عجلة الإنتاج للمواد المعدة للتصدير مثل الفوسفاط. ومعلوم انه تحت سقف معين من الأسعار لن تجذب البضاعة التونسية المستهلك الأجنبي بل يصبح سعرها المتدني عاملا منفرا لشرائها وعنوانا للحد من تطور أسعارها في المستقبل.
ومن ألطاف الله ان تدهور أسعار النفط طيلة الخمس سنوات الماضية ساهم في التقليص من تأثير الأزمة كما ساهمت المحاصيل الفلاحية القياسية في توفير الغذاء وتوفير مداخيل من العملة الصعبة عوضت النقص الحاصل في مداخيل القطاعات الأخرى.
التوافق لا يعني المحاصصة السياسية
هذه المؤشرات وغيرها تكشف عمق الأزمة وتداخلاتها أمام عجز النخبة السياسية التي صعدت إلى سدة الحكم بعد 14 جانفي 2011 إلى اليوم على تقديم الحلول الملائمة التي تتطلبها المرحلة الانتقالية. ورغم ان السيد الحبيب الصيد رئيس الحكومة هو الذي سيدفع ثمن هذا الفشل إلا ان النخبة السياسية الحاكمة تميزت بغياب فاضح لبرامجها الإصلاحية وذابت كل الوثائق والوعود الانتخابية التي قدمتها للحصول على ثقة الناخبين. فكيف نفسر عجز الأغلبية البرلمانية المريحة للأحزاب الداعمة للحكومة على القيام بالإصلاحات الضرورية لإخراج البلاد من مستنقع الشلل سوى انها لا تملك الحلول أصلا؟
وفي بعض حالات اليأس والضبابية يذهب المواطن بعيدا في تحليلاته إلى إحتمال وجود رغبة حقيقية عند بعض الأطراف في إحلال الخراب وتفكيك مؤسسة الدولة الجهاز الوحيد الذي لا يزال يجمع التونسيين تحت سقفه؟
لو تتحول المبادرة الرئاسية الأخيرة حول ضرورة تشكيل حكومة وطنية إلى مشروع تكليف لجان تقنية مختصة وغير سياسية تعمل على إعداد برامج مفصلة تحتوي على خيارات وإصلاحات واضحة ترفع إلى مائدة مستديرة لتحظى بالدعم السياسي وتكلف حكومة سياسية او تقنية لتنفيذ هذه البرامج فإننا نستطيع ان نفكر في المستقبل.
اما ان تتحول المبادرة الرئاسية إلى فرصة للمزايدة السياسية ومناسبة لتحليل التمثيل النيابي واستعراض القوة لفرض المحاصصة السياسية لتقسيم السلطة والحكم فإننا نهدر وقتا ثمينا ونساهم في تأزم الوضع وتفكك الدولة وتغول الإرهاب والمافيا المالية والسياسية. فالتوافق على برنامج للإنقاذ الوطني لا يعني المحاصصة السياسية.
يجب ان يوجد برنامج للإنقاذ قبل بدء المفاوضات وإلا فإننا نمارس العبث والهواية السياسية التي ستكلف حكام اليوم وكل الطيف السياسي الإقصاء بالانتخابات أو الإزاحة بالثورة. لأن التدهور لا يمكن ان يستمر إلى ما لا نهاية.
ان المشاركة الفعلية المباشرة للأطراف الفاعلة في الساحة الوطنية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة هي جزء أساسي لإنجاح برنامج الإنقاذ الوطني الذي ستعده فرق العمل التقنية وتتبناه أطراف المائدة المستديرة. فهذه الأطراف هي الضامن الوحيد لتحقيق السلم الاجتماعي وهذا الهدف يكون على رأس اولويات برنامج الإنقاذ الوطني.
نرجو من الله ان تنجح هذه المبادرة الرئاسية في لم شمل التونسيين وتساهم في إذابة جليد الخلافات الفكرية والإيديولوجية وان لا تكون حكومة الإنقاذ الوطني -إذا تمسكت الأحزاب السياسية بعقلية المحاصصة وتقاسم السلطة -فرصة اخرى يهدرها التجاذب السياسي والمصالح الضيقة. وان لا يكون خيار المواطنين كخيار هذا الرجل وأقاربه في محاولة حل أزمتهم وإصلاح أحوالهم.