تلك هي الشعارات التي كانت ترفعها دولة «الأخ الأكبر» في رواية «1984» للكاتب البريطاني جورج أورويل، دولة تقلب كل الحقائق وتسيطر على عقول الناس وتمنع التفكير الحر، شخصيا لا اخفي اعجابي بالكاتب وبالرواية ، ذلك ،انه اضافة الى الرؤية الثاقبة للكاتب وتفكيكه لذهنيةالمستبد وممارساته اللانسانية، فإن الكتاب يبيّن كيف ان العيش في هذا الواقع يسلب إنسانية الانسان ويجرده من توازن عقله وعمق تفكيره ويجرده من ذكائه، وذلك حتى يسهل انصهاره في النسق العام المبني على مشاعر الخوف والنقمة والكراهية...
استشراف انتشار الاستبداد:
تُنسب الرواية إلى ما يسمى بالخيال السياسيى، حيث كتبت، في سياق زمن استشرافي، بُعيد الحرب العالمية الثانية وبعد سقوط الفاشية ، وتتوقع طبيعة النظام السياسي الذي سيسود العالم سنة 1984 ويتعمق من خلالها الكاتب بدقة شديدة بحثا في طبيعة الانظمة الشمولية واساليبها في غسل ادمغة الشعوب والسيطرة على مشاعرها وتحويلها من مشاعر جميلة تربت عليها بفطرتها، وهي تحمل الحب والسلام والتآخي ، الى مشاعر الكراهية والحرب والتباغض ، يعيش البطل «وينستن سميث» في بلد يحكمه شخص واحد يطلق عليه «الاخ الاكبر «، يفرض وجود صوره في الأماكن والساحات العامة وداخل البيوت ، وتتابع نظراته كل أبناء شعبه كي يشعرهم بأنه يراقبهم اينما وجدوا ، يكلف حزبه بقلب الحقائق ، عبر وزارة تسمى –ياللمفارقة- وزارة الحقيقة ، مهمتها الأساسية «تصويب» حقائق الماضي ومحو كل ما يمكن أن يشكك في الاخ الاكبر وحزبه، فالوزارة مهمتها تصويره على انه الشخص القوي والنزيه والوحيد الذي يمكنه قيادة البلاد ، ولوزارة الحقيقة مهمة اخرى تتمثل في تشويه «اعداء الزعيم»، وهم الاشخاص الذين يختلفون مع الاخ الاكبر ويجب ، اضافة الى نعتهم بالخونة ليلا نهارا ، « حذفهم من تاريخ البلاد، «لأن «التاريخ هو ما يكتبه هو».
والطريف أن اللغة تتغير في منظومة الاستبداد وتوجد مفردات ومعاني جديدة تكون صدى لهذا الفكر الأحادي والشمولي ، وتحذف كلمات يرفضها الواقع، مثل كلمة الحرية والثقافة... وهذا مقصود ،فحين تسجن اللغة في معجم الحزب وقائده ،يضيق التفكير ويقتصر على ما يمليه الاخ الاكبر، شعاره في ذلك»أن الولاء يعني إنعدام التفكير ، بل انعدام الحاجة للتفكير، الولاء هو غياب الوعي.» ولابد للسلطة أن تحكم كل الفضاءات المحسوسة وكذلك عالم الكلمات ، والا كيف يمكنها السيطرة المطلقة على وجدان الشعب واحاسيسه؟
والمطلوب من الناس ليس فقط الطاعة والولاء ، بل التعبير عن الكراهية والحقد تجاه الآخر ، فيجتمع عامة الشعب يوميا كي يشتموا الثورة ويلعنوا كل أشكال المقاومة وفي نفس الآن يكيلون المديح والشكر للأخ الأكبر ، صاحب السلطة وغادق نعمة الحياة ، ولا يهم إن كان يرى أنها «(اي السلطة) ليست وسيلة بل غاية» ، لان هؤلاء المستبدين ، كما يقول أورويل « لا يقيمون حكما استبداديا من أجل حماية الثورة وإنما يشعلون الثورة لإقامة حكمهم الاستبدادي،» حتى وان قالوا عكس ذلك.
فهم مزدوج للكتاب:
والحقيقة ان سرّ إعجابي بالكتاب كان دائما انني رأيت فيه صورة الواقع السياسي العربي ، بكل تجلياته ، الرسمية وغير الرسمية ، سواء من كانوا يحكمون ، الذين تعلوا صورهم كل مكان وتشتغل اجهزتهم الرسمية بقمع كل فكر حر و بتزييف الحقائق ونسخ التاريخ واعادة تركيبه بما يتلائم والصورة المقدسة التي يريدون ان يرسموها لانفسهم، أو من عارضوا بدوافع أيديولوجية متطرفة، دينية أو يمينية أو يسارية، لا تقل خطورة وعسفا ،اذ للكتاب فضل أيضا في الكشف عن عمق أزمتنا كلنا (ذلك ،دون دراية او معرفة بنا) ، بما كنّا نحمله من انغلاق وتفكير عقائدي و أحادي وفهم مشوه لمسار التاريخ ، والخلل الذي نبه له جورج أورويل هو اساسا جمود العقائد والانغلاق ، لأن الفكر السياسي في حاجة إلى مراجعات دائمة يكتسبها الانسان عبر تجربته وعلاقاته وتطور ثقافته وفكره ، وهذا كله يجب ان يستفيد منه ليعدّل بوصلة تفكيره وينسّبه ويخضعه الى مراجعات دائمة، تماما مثلما أعاد جورج أورويل النظر في أفكاره الماضية وصوبها نحو مزيدا من الانفتاح والتسامح، وذلك بعد تجربته في القتال الى جانب الثوار اليساريين في برشلونة ...
ضد كل فكر شمولي:
ورغم بساطة لغتها ونقدها المباشر بما يبعدها احيانا عن رمزية الادب، فقد وقع تأويلها على أنها نقدا للنظام الستاليني الصاعد آنذاك ، لكن جورج أورويل اوضح قبل ان ينهكه المرض ،ان المقصود هي كل الانظمة الشمولية وأن هناك خطرا يهدد حتى الديمقراطيات الغربية العريقة وهو عودة الاستبداد، وربما لم يكن يدرك الكاتب صدق نبوته ، حيث ان العالم اليوم ، 75 سنة بعد صدور كتابه ،مهدد بالشعبوية المنفلتة عن كل القوانين والأفكار القومية المتطرفة والنزعات الفاشية،هذه الايديولوجيات التي تعتبر ان مهمتها الاساسية تتمثل في مقاومة المؤسسات ومحاولة الدوس عليها بطرق مختلفة بما يهدد بالعودة الى ما قبل عصر التنوير وثقافته وانسنته.
في الحقيقة الرواية هي دعوة للناس للتمسك بما يعتبره اورويل «الحقيقة»الدائمة ، حقيقة القيم الإنسانية وحقيقة السلم والمحبة وحق الاختلاف ، والقبول بهذا الحق وجرأة الصدع به في ان ، لان «الحرية هي ان تقول للناس ما لا يريدون سماعه» وكذلك طلب المعرفة في مواجهة التجهيل الذي يفرضه الاستبداد، لان الجهل هي العصا التي يتكئ عليها ليستمر.
اورويل مرّ من هنا:
في المنطقة العربية ، لازال عالم جورج أورويل الموحش يحافظ على نبضه ، بل وهنا تحققت جل نبؤاته : في وسائل الإعلام الرسمية هي ذات وزارة الحقيقة، وهي المكلفة بتزييف الحقائق –وكذلك سلخ ارادة الشعب- وتكييفها حتى لا تخرج عن مسار ارادة الاخ الاكبر ورؤيته ومزاجه، وهي مكلفة بتشويه التاريخ ، حيث يكلف كل المتزلفين باعادة كتابته وصناعة الكذب والتستر على التجاوزات والانتهاكات، والاخ الاكبر يطل برأسه من حين لاخر ليقول ، وهو يبتسم باحتقار، «انني هنا لا حكمكم وراقبكم، حتى وان كرهتمونني»، ، وتظل الاستهانة بالشعب و بذكائه وتفكيره ، هي رياضته السادية المفضلة، مادام يمتلك وسائل القوة والانتقام ، ومثلما تغيب الاحاسيس الجميلة لدى عامة الناس في كتاب 1984 ، فان النقمة والكراهية والريبة تسود، يعممها المستبد وزبانيته لنشر التجزئة والانقسام ، ويظل الحب ، الذي يراه جورج أورويل قمة الانسانية ،ممنوعا هنا خارج ما تحدده السلطة ويضبطه الحاكم وكذلك الحلم يظل مكبوتا ، وجريمة التفكير يعاقب عليها، اي انك ممنوع ان تفكر خارج ماتراه السلطة ، بل يجب ان تترك السلطة تفكر مكانك،
وحتى ان روادنا الحلم الجميل في التخلص من الاستبداد في المنطقة ذات «ربيع عربي» ونغلق حقائق رواية 1984 الى الابد، فان المنطقة سرعان ماعادت الى ايام بؤسها ورجع الاستبداد باكثر صلف وحماقة. لكن الى متى؟ بعض الاجابة هي عند جورج أورويل الذي يرى : «أن الواقع موجود في العقل البشري الجماعي ولا يوجد في مكان سواه، وأن العقل الفردي هو عرضة للوقوع في الخطأ ، كما أنه يفنى بفناء صاحبه،» هنا لا امل الا في ان تدرك الشعوب اهمية «العقل البشري الجماعي» وضرورة تجميع شتاته الذي بددته قرون من الاستبداد.