وحروبها وتحوّل منافساتها إلى ساحت الملاعب وانتصاراتها في إيلاج الجلد المدوّر في شباك هذا أو ذاك من الأمم، وللمرّة الأولى منذ إحداثها تجري هذه التظاهرة على أرض عربية وإسلامية بكلّ ما يحمله ذلك من أحكام مسبقة لدي الكثيرين في الغرب، ، فمنذ اختيار قطر والجدل لم يتوّقف حول أحقّية هذه الإمارة الصغيرة في تنظيم أكبر تظاهرة عالمية مثلها مثل الألعاب الأولمبية لكن دقّة التنظيم وتوفّر أحسن الظروف لاستقبال وإيواء مئات الآلاف من المتفرّجين من كلّ أصقاع الدنيا أذهلت كلّ العالم وأنسته بعض الإشكالات التي حصلت حول إصرار قطر على رفض بعض السلوكيات التي تعوّدت عليها جماهير البلدان الوافدة في التظاهرات السابقة والتي تراها تتناقض مع قانون «الشريعة الإسلامية» الذي تطبّقه على أرضها، ولشدّة المفاجأة التي صدمت الكثير من الملاحظين هنالك منهم من أصبح يتكلّم عن «المعجزة القطرية، ومن بينهم من كان منذ وقت قريب يعتبرها «إمارة السوء» ومصدر كلّ الشرور التي تحدث في العالم العربي، راح يشيد بالنجاح الباهر الذي حققته دولة قطر باعتباره نجاحا لكلّ العرب والمسلمين.
ومن المعتاد في تلك التّظاهرات أن تفيض وتطغى طفرة من العواطف الجياشة ومن مشاعر المحبّة والتسامح ومن مجاملات للجهة المضيفة ، لكن مهما كان حقيقة ذلك الاعتراف وصدق تلك المشاعر، فإنّه يُحسب لحكّام قطر الجرأة التي عُرفوا بها منذ مدّة طويلة وليس ذلك في الإقدام على تنظيم تظاهرة في حجم كأس العالم فقط، بل أيضا في الإقدام على لعب أدوار سياسية على المستوي الإقليمي أو الدولي تفوق الحجم الجغرافي والديمغرافي لبلدهم بكثير على ، فذلك البلد الذي لا تزيد مساحته 11571 عن كم مربع ويبلغ تعداد سكانه’000، 931، 2 نسمة سكانه .000. 320 ألف فقط منهم قطريون ، هو الذي تجرّأ على صدام حسين وطلب منه عن طريق وزير خارجيته جاسم بن حمد التنحي والخروج إلى المنفى لتجنّب هجوم أمريكا على العراق سنة 2003 ، وهو الذي احتضن لقاء المصالحة بين الفرقاء اللّبنانيين سنة 2008 اتفاق أطلق والوصول الى «اتفاق الدوحة» لحلّ أزمة الحكم حينها وانتزاع تجدّد الحرب الأهلية وذلك البلد لعب دورا محوريا في تحرك ما يسمّى بالربيع والإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي وفي تأييد الحرب ضد الرئيس بشار الأسد بسوريا. كما قام بالوساطة بين أمريكا وطالبان والتي أدّت لانسحاب القوات الأمريكية أفغانستان.
وظهور قطر أمام العالم على تلك الصورة يبرز عمق التّغيرات وانقلاب الموازين في المنطقة العربيّة ، فقد تحوّلت مراكز القرار العربي من القاهرة ودمشق وبغداد إلى الرياض ودبي والدوحة وأصبحت دول الخليج التي كانت تُنعت في السابق بالرجعية والتبعية إلى الإمبريالية التي تحدّد استراتيجيات المنطقة العربية في السلم والحرب، لذا فإنّ أوّل من يمكنه أن يتقاسم هذا النّجاح هي دول الخليج لأنّها ومنذ مدّة وبالرغم من الاختلافات التي تشقّها أحيانا سلكت نفس النهج في الاندماج في المنظومة المالية العالمية والاستثمار في العديد من القطاعات الكبرى بالغرب وبذلك حققت نهضة عمرانية كبرى وتحوّلت مدنها إلى مدن تضاهي وتنافس كبريات المدن في العالم بما فيها من أبراج وفضاءات خدمات عصرية متطوّرة.
انبهار الشعوب العربية غير الخليجية بتلك الصور التي تتهاطل عليها منذ انطلاق كأس العالم عرّت حالة الانفصام التي باتت تعيشها تلك الشعوب ودولها ، فمن ناحية أغلب تلك الدول مازالت تتشبث برفض الانصياع ظاهريا على الأقل للضغوطات الأمريكية للتطبيع مع «إسرائيل» بالمقابل تلهث وراء دول الخليج للحصول منها على مساعدات لمعالجة أوضاعها، ولأنّ هذه الدول قد تكون لم تفهم بعد أنّ ذلك «النجاح» الذي حققته دول الخليج لم يأت بسبب عائداتها النفطية الهائلة أو من حسن توظيفها لتلك العائدات فقط، بل لأنّ تلك الدول اتجهت نحو الاندماج الكامل في المنظومة الاستراتيجية الأمريكية بالقبول على أراضيها لقواعد عسكرية قبالة إيران، وقطع خطوات في التطبيع مع «إسرائيل» وأنّ حكّام الخليج باتوا يفهمون جيّدا في لغة المصالح ولا يخلطونها كثيرا بمشاعر الأخوّة الصداقة وهم واعون تمام الوعي أنّ وزنهم في اللعبة الجيوسياسية بالمنطقة رهين قدرتهم على تطويع تلك الدول للنموذج الليبرالي ومنع ظهور مجدّدا قوى رفض وتمرّد على المنظومة العالمية مثل تلك التي ظهرت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.