فالأجواء المشحونة بالإشاعات والاتهامات والتسريبات والإحالات تجعل تفجر مثل هذه القضايا أمرا متوقّعا، لكن المفاجأة الفعلية هي في نوعية الأسماء التي تضمّنتها تلك القائمة المسرّبة، فلأوّل مرّة منذ أكثر من سنة يشعر الرأي العام بأنّه وجهة «الصواريخ» تحوّلت من اليمين إلى اليسار بفتح تحقيق في مجموعة من الأشخاص من خارج الانتماء لحركة النّهضة وما يحيط بها، كما أن المفاجأة في جسامة التهم الموجهة إلى هاته المجموعة ، تكوين وفاق بقصد الاعتداء على الأشخاص والأملاك والتآمر على أمن الدولة والتخابر مع أعوان دولة أجنبية وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة الخ...ممّا يجعلها تفوق أو تعادل في خطورتها قضايا التسفير والجهاز السري التي لازال البحث فيها إلى حد الآن جاريا، وعقوبات تلك التهم قد تبلغ من الست سنوات سجنا إلى الإعدام حسب فصول المجلة الجزائية.
وبما أنّ القاعدة القانونية تقوم على أنّ لا أحد فوق القانون وكلّ متّهم بريء حتى تثبت إدانته، فليس هنالك سبب للانزعاج من إحالة أي كان ومهما كان موقعه ومهما تعلّقت به شبهة ارتكاب أو الاشتراك في جريمة على التحقيق لأنّ القضاء هو الذي سيكون الفيصل، لذلك على الجميع رفع أيديهم عن هذه القضية وترك القضاء يكمل شغله بعيدا عن الضغوطات والتـأثيرات، قد يكون هذا المنطق صحيحا إلى حدّ ما ففي النهاية البت سيكون في ساحة المحكمة وليس هنالك أي موجب للشك في استقلالية القضاء التونسي وحياده بالرّغم من كلّ حملات الهرسلة والتشكيك التي تعرّض إليها.
لكن ذلك لا يمكن أن يلغي الكثير من التساؤلات ونقاط الاستفهام في أذهان الناس، لأن هذه القضيّة تكتسي صبغة» التآمر على أمن الدولة» وهي تهمة سياسية بامتياز وفي العادة تقوم بمثل هذه الأفعال جهات منظمة متجانسة تمتلك حدّ أدنى من القوّة والوسائل للإقدام على فعل بهذا الحجم، لكن في هاته الحالة نجد أنفسنا أمام خليط لا رابط سياسي وإديولوجي ولا انتماء قطاعي بينه، ومواقف بعض المعروفين منه مختلفة ومتباينة إلى حدّ التناقض، فالوزيران السابقان اللذان يعتبران أهمّ عناصر في المجموعة، أحدهما زعيم لحزب ليس في قطيعة مطلقة مع المسار الحالي وأغلب تدخلاته مساهمة في طرح مقترحات الحلول والنصح أكثر منها مواجهة لمواقف الرئيس ولمساره، والأخر بحساسيته الحقوقية والثقافية وميوله الأكاديمي وبعده عن الانتماء الحزبي تجعل تورّطه في مثل هكذا قضية أمرا مستغربا جدّا، والإعلاميان اللذان ورد اسماهما في القائمة معروفان بانحيازهما لمسار 25 جويلية وبالوقوف إلى جانب الرئيس في مواجهة خصومه من جميع الأطياف، إذن ما الذي يمكن أن يجمع هؤلاء بمدونين ورجال مال واعمال ومديرة ديوان الرئيس للتخطيط للقيام بتلك الأفعال الجسيمة، هنا كان واجب الدولة إطلاع الرأي العام على تفاصيل وحيثيات هذه القضيّة حتّى لا تتركه فريسة للتأويلات والأقاويل، لأنّ غياب الدولة في الإفادة بالمعلومة الرسمية هو الذي فسح المجال لسيطرة صفحات فايسبوكية لصناعة الخبر والتّصرّف فيه وتأويله حسب توجهات ومصلحة بعض الجهات وهو الذي تسبب في ازدهار وانتشار تسريب الوثائق والمكالمات الخاصة المقرصنة بكلّ ما تحتمله من خطورة على حرمة الحياة الخاصّة وسلامة العلاقات الاجتماعية والمزعج أكثر أنّ هذه الظاهرة تبدو وكأنّها باتت من بين الأساليب المعتمدة في توجيه التّهم وتركيب الملفّات وتهيئة الرأي لهضم بعض القرارات والإشاعات.
أكيد أنّ الأصوات التي ارتفعت وساندت بقوّة سياسة المحاسبة وفتح الملفّات كانت تظنّ بأنّ العملية ستكون بمثابة « ضربة مكنسة» coup de balaiسريعة لتنظيف البيت وإعادة ترتيبه وفق قواعد جديدة، لم تكن تتصوّر بأنّ ذلك الأمر سيتحوّل إلى مسلسل روتيني وممل في بعض الأحيان خاصة أنّه تشابك مع مسلسل الأجندة السياسية الذي فتح هو الأخر على شروخ وتقلّبات ومنعطفات جديدة إلى جانب تطوّر الأزمة المعيشية وتفاقمها والتي أضفت على واقع البلاد مشهدا سرياليا، وأمام اتساع رقعة المحالين ليشمل مدونين وصحفيين وحتى مواطنين عاديين بسبب إبداء رأي أو نشر خبر أو كتابة تدوينه يمكن وضعها في خانة الأخبار الزائفة والمس من الأمن العام على معنى المرسوم 54 وترسانة الممنوعات القابلة للتأويل بسهولة خاصة إذا كان ذلك يتعارض مع أهواء السلطة وتوجهاتها فعلينا جميعا أن نتهيأ لنكون متّهمين مع تأجيل التنفيذ.