«ما أُريكم الا ما أرى»، فرد الحاضرون:» هذا ليس من قول العبد الصالح، انما هو قول فرعون،» فقال لهم:» من قاله فقد أحسن».
وابن عبدربه أورد الطرفة في باب المجانين والحمقى وربما ساقها تندرا وسخرية من والي يجهل مصادر الروايات وعبرها، بل و يتعنت في جهله، مكابرة وغرورا لكن هناك جانب اخر مهم ، وهو علاقة السلطة بالتسلط خاصة وان تاريخ المنطقة مليء بالمستبدين ، ماضيا وحاضرا ، أولئك الذين وان لم يكرروا مقولة فرعون جهرا فان اعتقادهم راسخ ان شعوبهم لا يجب ان تأكل الا ما يطبخون ولا تتحرك الا بما يأمرون ، ويذهب بهم الغرور أحيانا الى الاعتقاد انهم يختزلون امال شعوبهم واحلامهم وحاضرهم ومستقبلهم القريب والبعيد، وحين يستبد بهم جنون العظمة ، فانهم يتوهمون العصمة من الخطإ حتى انهم يتشبهون بالآلهة ، يقول عنهم أستاذ علم النفس المعروف ساث نورهولم (Seth Norrholm) في كتاب «نفسية المستبدين: القوة والخوف والقلق»: «لديهم راسخ الاعتقاد انهم متميّزين ، يستحقون الاعجاب الدائم ممن حولهم» لذلك لا يقبلون منازعة أفكارهم وينتقمون من الرأي المخالف، ولكن خلف هذه النرجسية الظاهرية تختبئ شخصية ضعيفة ومرتبكة ، دائمة القلق والخوف، وبقدر الخوف والقلق يكون الانتقام من كل المعارضين.
حديث الشيطان:
في بدايات القرن الحالي ، نشر الكاتب الصحفي ريكاردو اوريزيو (Ricardo Orizio) كتابا حول لقاءاته مع سبع مستبدين أُجبروا على مغادرة السلطة ، بعد ان نكلوا بشعوبهم واذاقوها ويلات الاضطهاد ، على مدى عقود أحيانا، الكتاب ، وعنوانه « حديث الشيطان» رسم فيه امزجة وأسلوب تفكير شخصيات مثل الحاج عيدي امين ، حاكم اوغندا ، الذي اعدم اكثر من 300 الف شخص و جون بيدال بوكاسا ، «امبراطور» افريقيا الوسطى الذي عُرف بأكل لحوم معارضيه، وجون كلود دوفالييه ، الذي حكم هاييتي بالحديد والنار ، حتى انه كان يجمع مئات المعارضين في سجون سرية أُطلق عليها «مثلث الموت» وغيرهم ...
الكاتب أراد طرح أسئلة على هؤلاء الطغاة وهم في منافيهم، أسئلة على بداهتها تظل حارقة، وهي من قبيل، هل هو نادم على ما فعله؟ وهل يعترف انه أجرم في حق شعبه؟ وهل يقبل بان يحاكمه أناس من بلده كان يعتبرهم دون مرتبة البشر؟ نقطة الالتقاء بينهم كانت مفاجأة، وهو ايمانهم القوي بأنهم لم يفعلوا الا ما يستوجبه حبهم لوطنهم ومصلحة شعوبهم، والاهم ان تحت قناع القسوة والجبروت، تختبئ شخصية مهزوزة وخائفة، ولعل اهم سؤال يطرح بعد نهاية كابوس كل حكم متسلط هو، هل اصبح البلد في وضع افضل؟ هل تعلمت الشعوب الدرس وتحوطت حتى لا تكرر تلك التجارب المريرة؟ المؤسف أحيانا ان الديكتاتورية هي الاقدر على إدراك المتغييرات والتأقلم معها.
ديكتاتورية في قفاز ناعم:
فالديكتاتوريات تحاول مجاراة التحولات ويضطر المستبدون، امام اكراهات داخلية وخارجية عديدة، للتخفي وراء ديمقراطية زائفة ، مخفين قبضتهم الحديدية في قفاز ناعم ، وقد درس الصحفي والكاتب الأمريكي ويليام دوبسون William Dobson))أساليب ومراوغات الحكام الطغاة من اجل البقاء في السلطة ، مثل تنزيل مستوى تزوير الانتخابات الى سبعين في المائة فقط عوضا عن 99 ٪ ، لإضفاء بعض المصداقية و التحكم في وسائل الاعلام مع ترك هامش من الحرية لتفادي تصاعد الغضب ومراقبة مزاج المعارضة وسن القوانين «الديمقراطية» مع الحرص على اقصاء المعارضين، وهذا ، حسب الكاتب ما جعل حسني مبارك، مثلا ، يظل في السلطة لمدة ثلاثين عاما « بشعارات وأدوات زائفة، مثل الإصلاح الاقتصادي والفكر الجديد واستخدام أدوات ديمقراطية، مثل الانتخابات مع تزويرها، وحرية الصحافة كوسيلة للتنفيس، وتفصيل القوانين لتكريس السيْطرة. « وفي نفس الان، استعمل مبارك «سلاح التخويف المتواصل» ممن سيحكمون بعده إذا ما تنحى رجل «متسامح» مثله عن السلطة، وان لاقى في الأخير مصير أي ديكتاتور حتى وان طال الزمن، فيجب أيضا النظر الى ما الحقه من ضرر لبلد لم يذق طعم الحرية الا لفترات وجيزة منذ استقلاله.
الديمقراطية: منافسة الاستبداد أم البناء على انقاضه؟
مع ثورات ما سمي بـ«الربيع العربي» في نسخته الأولى والثانية، سقطت قيادات أنظمة وسادت لبعض الوقت أحلام الحرية والديمقراطية ورغد العيش، لكن ما فتئت ان اطلت رؤوس الردة ونجحت الثورات المضادة في احباط الحلم لعدة أسباب ، منها في اعتقادي ، ان إرادة اسقاط الأنظمة لم يقابلها التخلص من عقلية الاستبداد التي تسكننا ، اما كموروث ثقافي وديني أو كأيديولوجية متكلسة ومطبقة، والنخب الحزبية والمدنية ، حتى في تلك البلدان التي لم تعرف نزاعات مسلحة او حروب اثنية ، ظلت وفية لذلك الموروث ومسكونة بالسلطة والمحافظة عليها ، وحتى الفوز في الانتخابات فانه لم يترجم في المخيال السياسي على انه طريقة من طرق التداول على السلطة ، بل كمكسب وغنيمة يجب الاستفادة منه واستدامته.
بعبارة أخرى، لئن نجحت الشعوب في الإطاحة بحكام مستبدين، إلا أنها لم تنجح في بناء ديمقراطية حقيقية، لان النخب السياسية والمدنية كان شعارها منافسة الاستبداد وليس البناء على انقاضه، وذلك ما يجعل مطالب مشروعة مثل الحرية والعدالة لا تتجاوز الشعارات التي تناكف الأنظمة. لكن هل معنى هذا ان هذه الشعارات التي رفعت في كافة المنطقة تظل ملتبسة لان تربتها غير صالحة؟
في الحقيقة ليس هناك من شعب لا يستحق الحرية وليس هناك من شعب لا يطمح ان تتوفر له كرامة في وطنه، لكن تظل الثورة الحقيقية تحمل وجهين: الأول، مواجهة الاستبداد والاطاحة به بكل الطرق المشروعة والثاني مساءلة دائمة وحارقة لثقافة الاستبداد بداخلنا وتنمية وعي مغاير لما الفناه وتربينا عليه من مكابرة وعناد وانفراد بالراي ورفض للاختلاف، عندها فقط لن يبقى للاستبداد موطأ قدم و لا نستبدل ديكتاتور باخر، أحيانا اقل منه جدارة و مروءة واكثر منه شراسة، بل ندفن استبداد فراعنة العصر، ليظلوا جزءا من التاريخ، مثل اجدادهم، ونعدّل الصورة كي نصبح أحرارا في ان نرى مالا يراه أي طاغية.
صرخة كل ديكتاتور: «لا أوريكم الا ما أرى»
- بقلم مسعود الرمضاني
- 11:51 01/12/2022
- 1910 عدد المشاهدات
ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه ان أحد ولاة الحجاج بن يوسف خطب في الناس قائلا: «أقول لكم ما قال العبد الصالح