للحصول على الموارد المالية لدعم ميزانية الدولة والاختلافات بين مختلف وجهات النظر تنحصر عموما حول إدارة المحادثات والتفاصيل والتي يرى البعض وجوب الانتباه إليها.
إذن لماذا تصرّ الحكومة على التّكتّم الشديد حول سير المحادثات وحول مضمون تعهداتها للصندوق وبالتالي تترك المجال لمسؤولي الصندوق للحديث وتوضيح مواقفها بدلا عنها من قبل ومن بعد الاتفاق.
ربّما لأنّ موقف إدارة الصندوق معروف وثابت في مطالبة الجانب التونسي بإجراء «إصلاحات عميقة جدّا» كما جاء على لسان « جيروم فاشيه» ممثل الصندوق بتونس، والمقصود بالإصلاحات هو رفع الدعم وتجميد الأجور ووقف الانتداب والتفويت في المؤسسات العمومية أو في جزء منها في مرحلة أولى الإصلاح الجبائي، في حين أنّ الحكومة واقعة بين مطرقة الرئيس الذي يتباين في خطابه عن التوجه الذي تسير فيه الحكومة وبين سنديان الصندوق الذي يضع الالتزام بتلك القيام بتلك الإصلاحات كشرط أساسي للوصول إلى أي اتّفاق... والحكومة تعرف أنّ الحدود التي تقف عندها صلاحياتها هي التفاوض ووضع الـفاق ، أمّا المصادقة عليه وتوفير الغطاء السياسي له فهذا ليس من شأنها ولا تمتلك الشرعية لذلك، و في ظلّ عدم وجود برلمان للالتزام باسم الشعب في مثل هذه الاتفاقيات ولحلّ هذا الإشكال، كانت شرط الصندوق إقحام الاتحاد العام التونسي للشغل للإمضاء إلى جانب الحكومة، وكان هذا سيناريو مثالي الذي يرفع الحرج عن الحكومة ويجنّب رئيس الدولة التورّط المباشر في مثل هذا الاتفاق ويضفي نوعا من الشرعية ومن التشاركية التي تساعد الجهة المانحة على تجاوز إشكال الضمان القانوني والسياسي، لكن هذا السيناريو سقط في الماء، بسبب تباين مواقف الاتحاد عن مواقف الحكومة في مسائل جوهرية رفع الدعم والتفويت في المؤسسات العمومية، وولذا لم يبقى سوى الرئيس المؤهل للقيام بذلك وبمفرده.
هذا هو المأزق الذي طالما عمل الرئيس على تجنّبه وعدم الوقوع فيه، فمنذ أن أمسك بالحكم دون منازع ولا شريك، اختار أن يكون فوق المؤسسات والفعاليات ولا يورّط نفسه في العجين اليومي كي يبقى دوما في «صف» الشعب» والمرجع الذي يعدّل الأمور ويصححها حين تفلت على الجميع، لذلك لم يتردّد في الإعلان عن مواقف تتناقض مع خط سير حكومته في المسائل التي قد تكون لها كلفة على شعبيته وصورته في أذهان الناس كرفع الدعم والموقف من التفويت في جزء من المؤسسات العمومية، فظهوره بصفة واضحة ومباشرة في مثل كذا اتفاق، حتما سيهز من صورته كمناهض لسياسة الاقتراض والارتهان إلى الخارج وهو الذي حقق انتصاره على المنظومة التي أزاحها من الحكم من خلال خطابه الذي يدين سياساتها في رهن البلاد بالاقتراض من الخارج وسوء التّصرّف فيه.
ودخوله تحت سقف الـFMI بهذا الشكل سيطرح تساؤلا عميقا إن كان هذا تراجعا منه عن مشروعه الذي كان يقدّمه بديلا عن النمط الاقتصادي والاجتماعي السابق باعتماد الشركات الأهلية كحلّ جذري لمشاكل البلاد وإعادة عجلة التنمية للدّوران أو محاولة منه لربح الوقت لاستكمال إحكام القبضة السياسية على البلاد في انتظار تغيّر الظروف أو حدوث معجزة تنقذ اقتصاد ومالية البلاد وتثبت دعائم مشروعه السياسي ؟ ولكن في كلا الحالتين وضع يده مباشرة في العجينة فيه كثير من المخاطرة بموقعه وبشعبيته، فالتّعاطي مع المؤسسات المالية الدولية مختلف عن التعاطي الديبلوماسي الحكومي والمسموح فيه بمساحة من المناورة ، ففي حال حدوث أي صدام مع الـ FMI وعدم التّقيّد ببنود الاتفاق فإنّ الرئيس لن يلقى نفس النجاح في مراوغة الضغوط الدولية بخصوص إجراءاته الاستثنائية التي اتخذها وبانفراده بالحكم وفرض نوع من القبول بها على الاتحاد الأوربي وأمريكا، فتلك الدول المهيمنة على الصندوق لا تتسامح في لعبة المصالح خاصّة وأنّها ستصبح المتحكّمة في أنفاس الاقتصاد التونسي من خلال ذلك الاتفاق، أمّا على المستوى الداخلي فإصرار الرئيس على إشراك أي جهة معه وعدم الإنصات إلى لأصدقاء ولا إلى الأعداء فستجعله يواجه لوحده تبعات ذلك الاتفاق خاصّة وأن الشكوك بدأت تتعاظم حول أنّ ما يحدث على الساحة ليس من قبيل الصدفة وأنّ اضطراب السوق واختفاء العديد من المواد الأساسية وإطلاق العنان للأسعار لبلوغ ارتفاع جنوني، مخطط له لقياس قدرة الجسد الاجتماعي على تحمّل الانعكاسات المحتملة للاتفاق عن التطبيق، وأنّ ردود الفعل الهادئة نسبيا لحد الآن تبقى غير مطمئنة ولا يمكن التّنبّؤ بتطوّرها في ظل تواصل اهتراء الطبقة الوسطى وانزلاقها نحو الفقر...فانهيار هذه الطبقة التي تعتبر الضمانة الأخيرة للاستقرار بالبلاد سيفتح الوضع على احتمالات قد لا تفيد معها حكايات الحرب على المحتكرين الأشباح والبحث عن الكنوز المنهوبة ومسلسلات الملاحقات والاتهامات دون جدوى وحينها قد نحتاج إلى كتاب ألف لية ولية أكثر من كليلة ودمنة لمعرفة شطارة الخروج من المأزق.