هذه الأبيات من قصيدة السفر اعتبرها واحدة من أهم قصائد الشاعر الفلسطيني معين بسيسو .كان شاعرا لمقاومة كتبها خصيصا لإلقائها في أمسية شعرية في لندن مع رفاقه محمود درويش وسميح القاسم .إلا أن القلب خان ابن عزة وخفت عن الإخفاق ولم يتمكن من إلقائها بصوته الملائكي .إلا أن هذه القصيدة ستعرف انتشارا كبيرا تجاوز الثورة الفلسطينية لترتقي إلى العالمية وتصبح نشيدا للباحثين عن وطن .
وستأخذ «سفرٌ سفرً» معنى وبعدا إنسانيا في حوض المتوسط وهذا البحث المتواصل عن مرفإ للإرساء منذ العصور القديمة إلى المآسي الحديثة للباحثين عن الأمل .
تذكرت هذه الأبيات للشاعر معين بسيسو وأنا أحاور الصديقة ماريان كاتزاراس المبدعة والمصورة والشاعرة .فهي كما معين وككل الباحثين عن موطإ قدم في هذا البحر للهروب من مآسيه وانكساراته لم تجد إلا التيه في السفر ونشر الأشرعة لعل الريح تحملها إلى مرفإ هادئ تلملم فيه جراحها وتعيد بناء أحلامها .
• بداية الرحلة:
انطلقت رحلة ماريان كاتزاراس من جزيرة جربة حيث ولدت لأبوين يونانيين .وكان الوالد يشتغل كالعديد من أفراد الجالية اليونانية في البحث عن الإسفنج واصطياده.وكان الوالد مناضلا سياسيا ومقاوما ضد الدكتاتورية العسكرية .
منذ البداية كانت الحياة عبارة عن ترحال متواصل بين اليونان وجربة.لذلك كان لهذين العالمين تأثير كبير في مسيرة ماريان هذه الصبية اليافعة والتي ستفقد والدتها في سن الخمس سنوات .فالعيش والطفولة في جزيرة جربة سيكونان سلاحا ذا حدين حيث ساهم من جهة في الانفتاح على العالم وعلى الآخر الذي طبع روح الفنانة ومن جهة أخرى سيكون وراء البحث عن شيء من العزلة والوحدة والانكفاء عن العالم .هذا الشعور المتناقض بين اللقاء والهجر سيطبع أعمال ماريان الفوتوغرافية وأشعارها .
كما أن السفر المتواصل بين تونس واليونان وفرنسا في ما بعد سيساهم في نحت شخصية ماريان وهذا البحث المتواصل عن الهوية وهذا السعي المتواصل عن مرفإ الإرساء.
وبعد الدراسة في المدرسة الفرنسية في تونس تحولت ماريان كاتزارس إلى باريس حيث درست الآداب الفرنسية في جامعة السوربون.وستمكنها سنوات الجامعة من النبش في عالم السفر واللاجئين والمهجرين عن أوطانهم من خلال بعض الدراسات التي قامت بها حول اللاجئين الجمهوريين الإسبان سنة 1939 اثر انتصار فرانكو والفاشية .كما ستقوم بعمل دراسي سيساهم في نحت مخيالها الشعري عن الشعراء اليونانيين في الإسكندرية .
وستتعرف ماريان في سنوات الجامعة إلى الشاعر المارتينكي ادوارد قليسان(Edouard Glissant) الذي سيدرسها أدب الهامش في الجزر .وسيؤثر هذا الشاعر الكبير في تجارب ماريان وكتاباتها الشعرية الأولى .وسيكتب تقديما لكتابها حول السود في جزيرة جربة.
وستبدأ في هذه السنوات الأولى في الكتابة التعبير عن جزء من هذا الخوف والرهبة التي تعمل في هذه الذات الحائرة .لكن الكتابة ستزيد من الخوف والرهبة ومن هذا الهدير الذي يحملها إلى أماكن أكثر غموضا وبعيدا عن الذات .
وسيدفعها هذا الخوف من المسار الغامض الذي تدفعها إليه الكتابة إلى البحث عن مسار إبداعي جديد يخفف من وزن الوحدة ويعطي لهذه الذات الحائرة شيئا من الاطمئنان .
وهكذا ستتجه إلى الصورة الفوتوغرافية لمصاحبتها في رحلة البحث عن الذات .
• الصورة أنيس رحلة التيه:
ستتجه ماريان إلى الصورة السينمائية من خلال بوابة السينما حيث ستحصل على ديبلوم في السينما في باريس ثم ستتجه إلى العمل في ميدان الصورة.
وستشتغل في ميدان الصورة في عديد البلدان من فرنسا إلى اليونان والعودة الدائمة إلى تونس .فبعد باريس ستستقر في أثينا حيث ستكون مصورة هاريس اليكسيو (Haris Alixiou) وهي أهم مطربة يونانية وقد لقبتها ماريان بأم كلثوم اليونان .
ثم ستعود إلى تونس لتشتغل لفترة طويلة كمصورة بلاتو في عديد الأعمال السينمائية التونسية وعلى عديد المسرحيات .
إلا أن هذا العمل لم يكن ليشفي غليلها وحيرتها المتواصلة وستبدأ في السفر لتصوير الأقليات كالسود واليهود والغجر.وستجعل هذه الصور وهذا التيه مع الأقليات من ماريان كاتزاراس أحد أهم المصورين الفوتوغرافيين الحاليين .
• الصورة وتواصل الحوار مع الذات:
ستكتشف ماريان شيئا من ذاتها التائهة في هذه الصحبة مع الصورة والتي ستكون أنيسها في هذا السفر المتواصل وستمكنها الصورة من أن تصبح في فترة وجيزة من أهم المبدعات في هذا المجال في السنوات الأخيرة .
وكان لماريان نشاط حثيث ومميز في السنوات الأخيرة .ونجد في هذا النشاط معارض خاصة في متحف باردو سنة 2019 وقاعة عرض le violon bleu في 2018 و2020 وفي فرنسا في معهد ثقافات الإسلام سنة 2018 وفي ايطاليا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية ومصر واليونان .
كما ستكون مديرة البينال المتوسطي للصورة في تونس في 2010 وفي عديد المناسبات الأخرى مثل ايطاليا (2017) والسعودية(2019) والجزائر (2022).
وستقوم بآخر معارضها في مسرح» الكوليزي» بروما سنة 2020 والذي سيصبحه كتاب يجمع هذه الصور تحت عنوان «ذاكرة الحجر» (la mémoire de pierres) .
وستتحصل على الجائزة الكبرى لمدينة تونس سنة 2010 وميدالية الفنون والآداب الفرنسية لسنة 2011.كما ستساهم في بعث مهرجان غار الملح للصورة الفوتوغرافية .
والى جانب الصورة الفوتوغرافية ستبقى الكتابة والشعر حاضرين في هذه الرحلة الطويلة في البحث عن الذات عند ماريان كاتزاراس فالشعر يبقى عندها كما هو الشأن في الملحمة اليونانية تكثيفا وتجميعا لكل الحكايات .فالشعر يحاول تجميع البقايا المتناثرة داخل الذات.والشعر يمكن ماريان من الحوار مع الذات ومع الآخر دون أن تكون لهذا الحديث بداية أو نهاية .فالشعر هو مرفأ بعيد في السحاب والعتمة يعطيك الشعور ببداية النهاية للرحلة دون أن يمكنك من الإرساء .
وقد أصدرت ماريان ديوانا شعريا تحت عنوان «أغلقت منازلي» (J’ai fermé mes maisons) في دار النشر Bruno doucet (برينو دوسي) سنة 2021.
وقد تم ترشيح هذا الديوان لجائزة المدارس .
تونس – اليونان والبحث الدائم عن المرفإ
إلا أن الصورة والشعر لم يطمئنا ماريان كاتزاراس للحظات لتتواصل رحلة التيه والغوص في السفر للبحث عن الذات .ولا يمكن لهذه الرحلة أن تنتهي لأنها تعيد إنتاج الملحمة اليونانية منذ البدايات . فالذات في نهاية الأمر في مواصلة السفر للغوص في أعماق الذات والأنا .هذا التيه المتواصل واللانهائي غذاه انغماسها في الجالية اليونانية منذ نعومة أظفارها في جربة وفي تونس العاصمة .كما تشبع من سفرها المتواصل إلى اليونان.وستكون تونس حاضرة في هذا السفر المتواصل .فهذه البلاد تسكنها في خفقان قلبها .فهي حكاية حب لا تنتهي كلما ابتعدت عنها أعادتها وكأنها تربطها بسلاسل وأغلال مخفية .
وسيتواصل هذا اللجوء والغربة والبحث المستحيل عن مرفإ للراحة ولقاء الذات لتكون الملحمة اليونانية المدى البعيد لهذا السفر .ويلتقي هذا البحث المهووس بالجنون عن الذات عند ماريان كاتزاراس مع الشاعر معين بسيسو في قصيدة السفر :
«....من أنا
طارت أنا
حطت أنا
طار الحجل
حط الحجل
طارت نعم
حطت نعم
لا.لا.لا
لا.نعم
نعم .لا
لا.نعم
طار الحجل
حط الحجل
سفرٌ
سفرْ...»
قهوة الأحد: وجوه من الإبداع: ماريان كاتزاراس (Marianne Catzaras) الصورة والبحث عن مرفإ للإرساء
- بقلم حكيم بن حمودة
- 12:03 31/10/2022
- 1340 عدد المشاهدات
«سفرٌ سفرْ
موج يترجمني إلى كل اللغات وينكسر
موجا على كل اللغات وانكسرْ
وترًا وترْ
سفرٌ «سفر ...»