برج بابل: الشباب ومواجهة الاختبارات

عندما قال «بيار بورديو» عالم الاجتماع الفرنسي ليس الشباب سوى كلمة، كان يعني بذلك صعوبة تحديد هوية الشباب، لتخرج المقولة من بعدها الزمني

أي من ارتباط الشباب بمرحلة عمرية إلى كون الشباب بناء اجتماعي يخضع إلى تطلعات وصراعات ومواجهات عديدة. لقد انتقلنا من مرحلة فيها الاختبارات معلومة ويخوضها الشاب مسنودا إلى مرحلة أخرى من الاختبارات غير المعلومة، مكثفة جدا ومتنوعة ومنخرطة أكثر في ثقافة استهلاكية ومجتمع مشهدي. وهذا ما زاد في صعوبة المواجهة.

الشباب إذن ليس أيضا مكانة ولا موقعا ثابتا ولا مقولة ذات مضمون جوهري، إنه بالأساس جملة اختبارات حياتية يواجهها الشباب خلال مساراته المتعددة. وفي مقولة الاختبار هناك ما يفيد أن لا شيء مضبوط بشكل ما قبلي وأن النتائج غير معلومة مسبقا وأن مصير الحياة لا يعرف وجهة واحدة وأن الشاب فاعل أكثر من كونه عون تنفيذ وأنه يفاوض حول مصيره أكثر من قبوله بصفة تلقائية ما يُقترحُ عليه.

الاختبارات التي يواجهها الشباب ويعيشها فعليا عديدة، ولكن مضمونها متغير بتغير السياقات والثقافات والتحولات المجتمعية. هناك اختبار الجسد وهناك اختبار الفكر واختبار المدرسة واختبار الحصول على شغل وغيرها وهي اختبارات مرّ بها جيل شباب الستينيات من القرن الماضي مثلا كما تمرّ بها كل الأجيال ولو بدرجات متفاوتة ولكن المرور بها يكون بمضامين مغايرة لما هي عليه الآن. مضمون هذه الاختبارات العديدة في وقتنا الراهن مركزها الفرد والفردانية وكيف يتحول هذا الفرد إلى ذات مسؤولة أكثر على مصيرها وقادرة أكثر على مواجهة التحديات. هذه التحديات التي يعيشها الشاب الآن كاختبار فردي بعد أن عاشها في الماضي كاختبار جماعي. ومن هذا المنطلق تصبح مشكلة البطالة مثلا مشكلا فرديا وتعاش على أنها إخفاق شخصي لأن مؤسسات المرافقة في حالة وهن دائم وبالتالي يكون الخلاص فرديا ومرتبطا بمدى قدرة هذا الفرد على إيجاد حلول لمصيره. شباب المرحلة الحالية يواجه اختبارات متصلة بوفرة غير مسبوقة من العروض التي تأتي أمامه كل لحظة عبر وسائط مختلفة. هذه العروض التي تدخل في أدق جزئيات حياته تدفعه إلى التفاعل ، إلى التجربة ، إلى الاكتشاف وعليه أن يكون مع هذا قادرا على الفعل.
السؤال هنا هو كيف تستعيد الدولة ومؤسساتها القدرة على جعل مثل هذه المشكلات الاجتماعية مشكلات جماعية؟ بمعنى كيف يمكن أن يكون الحلّ جماعيا؟

المسألة الشبابية مسالة أفقية، وعلى الدولة أن تعي هذه القضية. هناك شباب المدارس والجامعات ولديه انشغالاته المتعلقة بالنجاح وباختيار الاختصاص المناسب والدراسة في ظروف أفضل و بمحتوى ينظر للتطورات الحاصلة في جل الاختصاصات ، على أن يكون متاحا له هامش أوسع من الحركة في السفر وفي المشاركة في الشأن العام وفي الولوج إلى مؤسسات التربص و في الحصول على امتيازات التخفيض في تسعيرات التمتع بالترفيه وعلى الدولة بمؤسساتها المختلفة أن تتيح لهذا الصنف من الشباب إمكانيات أفضل للحركة و للانتقال بين المجالات المفتوحة أمامه بكل سهولة وليونة ودون ضوابط صارمة كما هو الحال الآن.

وهناك أيضا الشباب الذي هم خارج دوائر العمل والتعليم والتدريب وعدده في تزايد، هؤلاء قنابل موقوتة بلا أمل وبلا أفق في المنظور القريب. هؤلاء يعيشون أزمتهم بمرافقة القنب الهندي، وبمرافقة تخطيط يومي للهروب نحو كل الاتجاهات الممكنة، المهم هو الهروب. هؤلاء لفظتهم المدرسة ولكن لا يعني هذا أنهم سيكونون فاشلين في العمل. ماذا نفعل لهؤلاء كي لا يهربوا واقعيا أو رمزيا من وطنهم الذي لم يعد لهم فيه نصيب؟

من الوارد أن لهؤلاء أمكانيات كبيرة وفشلهم الدراسي لا يعني فشلهم في الحياة بما في ذلك الحياة المهنية. وهذا يدفع الدولة إلى الإيمان بقدراتهم متى وفرت لهم برامج للتدريب وبرامج للإدماج المهني وأخرى للإدماج المدني. وتكون هذه البرامج بالشراكة مع مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص التي تحتاج دوما إلى مختصين ذوي درجة معقولة من التدريب. تدريب مرتبط باحتياجات السوق وباحتياجات المهن الجديدة المستقبلية.

الشباب العاطل عن العمل والحاصل على ديبلوم، هذا الصنف الشبابي هو الآخر في وضع حرج مادي ونفسي واجتماعي. الكثير منهم تجاوزت بطالتهم فترة لم يعد الديبلوم يفي بشيء يُذكر والعديد منهم أصبحوا غير قادرين على التعامل مع الاختصاص الجامعي الذي سلكوه، ما يعني وصوله إلى شبه قطيعة مع تخصصاتهم ويصبحون مدفوعين إلى مقاربة مستقبله مقاربة أخرى في سياق مغلق والحركة فيه عسيرة. هؤلاء يحتاجون إلى الإدماج بمجرد الحصول على الديبلوم كلّ في اختصاصه حتى يحافظوا على مكتسباتهم وهنا يمكن لثقافة التطوع أن تساهم في التخفيف من الأزمة. إن إحداث وكالة وطنية للتطوع التعاقدي مثلا يمكن أن يفتح قنوات لهؤلاء لتدعيم تجربتهم المهنية. كلّ هذا من أجل إرجاع قيمة الحل الجماعي في مواجهة الخلاص الفردي الذي أصبح الآن لدى الشباب ثقافة جديدة.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115