منذ ظهور الهجرة إلى الضفة الشمالية للمتوسط عبر القوارب البحرية في تسعينيات القرن الماضي تحولت تمثلاتنا إليها من حدث يقترب إلى الخطيئة التي لا تغتفر إلى تعبير عن قدرة لامتناهية على حسن تدبير. ومن هجرة سرية تحولت التسمية إلى هجرة غير نظامية.
كانت الظاهرة في بداياتها مسيئة للعائلات ولصورتها في المجتمع المحلي وتزداد الإساءة عندما تفقد العائلة أحد أبنائها في عرض البحر. ولا يقع ترميم الصورة نسبيا إلا عندما يعود الابن بعد فترة معلنا عن نجاح التحدي. ولكن مع كل هذا كانت العائلات رافضة لكل أشكال المساندة مادية كانت أو رمزية. الهجرة غير النظامية مع المخاطر الكبيرة التي تحيط بها كانت تعبيرا لا فقط عن عجز الدولة عن توفير متطلبات العيش الكريم بل تعبيرا مضاعفا عن عجز العائلة على الارتقاء بأبنائها اجتماعيا عبر المدرسة. كان هناك شعور بالإهانة مدفوعا بعدم القدرة على الإحاطة والمرافقة.
وقد تعقدت الوضعية الاقتصادية والاجتماعية لشريحة كبيرة من الشباب وبدأت العائلة تساعد ولو سريا أبناءها على خوض التجربة. هناك نوع من التواطؤ العائلي الذي يمنح الشاب نوعا من الشرعية حتى يكمل مشروعه الهجروي. النجاخات التي تتحقق من خلال مقارنات يومية تجعل المشروع الهجروي يتحول شيئا فشيئا إلى مشروع عائلي ولو بشكل محتشم. وكلما ازداد منسوب فقدان الأمل تأهلت العائلة للقبول بسهولة الانخراط مع أبنائها في بناء هذا المشروع.
في ظل هذا المناخ من فقدان الثقة في المستقبل دخلت فئات جديدة إلى منظومة الهجرة نحو أوروبا. دخل الإطباء والمهندسون بأعداد وافرة وهو ما يزيد منخرطي الهجرة غير النظامية اقتناعا بمشروعهم وبمخاطره. لكلّ دوافعه ولكن في الأخير النتيجة واحدة، ويتحول فقدان الثقة في الحاضر وفي المستقبل -الذي أصبح جماعيا هذه المرّة- إلى بوصلة تقود الشباب إلى تحديد مسار حياته. الشباب ليس المعني بمفرده بالظاهرة بل دخلت العائلات والقاصرون إلى هذا المشروع. يحدث هذا في ظلّ مجتمع استهلاكي ومشهدي، هوية الأفراد فيه هوية تجلّ وتموقع جديد داخل النسيج المجتمعي.
ماذا يعني انخراط العائلات في المشروع الهجروي غير النظامي؟ هل هو حركة تضامنية؟ أم هو التقاء مشاريع فردية؟
من المهم الإشارة إلى التحولات الاجتماعية التي حدثت وغيرت موقع العائلة في الواقع وفي الأذهان. لقد تحولت العائلة من مؤسسة اجتماعية متماسكة ومشتركة في التوجهات وفي المصائر إلى مؤسسة تلتقي فيها مشاريع فردية متباينة وفق القدرات المادية والرمزية لكل فاعل داخلها. والمؤشر على ذلك الفراغ العائلي الذي يُترجم عمليا إلى خيارات لا تلتقي كما كان الأمر في السابق حول وجهة واحدة. ولا يحتاج كل فاعل إلى الآخر داخل العائلة إلا في الحدود التي تخدم بناء مساراته. وتصبح العائلة هنا بحكم كل هذه التحولات المرتبطة بصعود الفردانيات التقاء لفاعلين بطموحات وخيارات متباينة.
من المرجح أن تكون خيارات العائلات المهاجرة بطريقة غير نظامية التقاء خيارات فردية مدعومة بنظام قرابي يصلح في مثل هذه الاختبارات الصعبة. ومن المرجّح أيضا أن الأعداد الكبيرة التي تصل إلى 15 ألف مهاجر عبر الطريق تطاوين – صربيا قد ضمنت شبكة من العلاقات القرابية تستقبل الوافدين في فرنسا خاصة من أجل إعادة إدماجهم في المنظومة الاقتصادية التي يديرونها. هنا تستعيد العائلة التي تعيش أزمة شاملة في تونس قدرتها على خلق التضامنات في سياق أزمة متعددة الأبعاد.
هناك معطيات جديدة في العلاقة مع ما هو شرعي وغير شرعي وفي كيفية التعامل مع ما هو مقبول وغير مقبول قانونيا وأخلاقيا. مثل هذه العلاقات وقع استبدالها بمقولات أخرى تقوم على القدرة والتدبير. القدرة على إنجاح التجربة من عدمها وعلى حسن تدبير الوصول إلى المُبتغى وغير ذلك لم يعد مهما.