»Jean Michel Quatrepoint.
• ازدهار الشعبوية:
تُعتبر السنوات الاخيرة مرحلة صعود الشعبوية، لا في البلدان الديمقراطية فقط ، بل حتى في البلدان النامية، بما فيها المنطقة العربية، حيث يحتاج الاستبداد احيانا الى جانب القمع والتسلط ، الى خطاب بسيط يلامس مشاعر العامة ويدغدغ عواطفهم ويثير حماسهم ويعطيهم بعض الامل، مستغلا في ذلك تذمرهم واوجاعهم وعجزهم أمام أزمات اجتماعية حادّة:
وتنتقل الشعبوية في المجتمعات كالنار في الهشيم لأنها تقدم اجوبة بسيطة وساذجة ، احيانا، لقضايا معقدة ، مناقضة في ذلك النخب المدنية والسياسية والخبراء وذوي الاختصاص ، الذين يسعون للبحث عن الحلول عبر معطيات ميدانية وتحاليل معقولة تستجيب لتعقيدات الواقع ، وقد استفاد هذا الفكر السطحي من تفاقم الازمات السياسية بعد ان عمّقت العولمة الرأسمالية الفوارق الاجتماعية وعجزت الدولة الوطنية عن الاحتفاظ بدورها التعديلي والراعي ، كما اخفقت النخب الليبرالية واليسارية في تقديم حلول لتحديات تصاعدت مخاطرها: ازمات اقتصادية وتفاوت اجتماعي وفقر مدقع وعنف متصاعد...وعجزت، كذلك ، المنظمات الدولية ، الحاملة لمبادئ العدل والقانون العام عن الحد من الحروب والظلم وعجرفة الدول القوية، مما افقد رسالتها الانسانية الكثير من المصداقية ، بل واصبحت المبادئ التي اتفقت عليها الدول بعد حروب دامية وازمات حادة ، محل تساؤل ، فحتى مجلس الامن ، الذي تأسس على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها فان «قراراته (اصبحت) تُنتهك قبل ان يجف حبر كتابتها « كما جاء على لسان امينها العام السنة الماضية، وحين يغيب العدل يحضر امران : الرياء وقانون الغاب.
«لم تكن لـ«موسوليني» رؤية ، كانت له بلاغة فقط»:
هذا ما كتبه امبرتو ايكو في كتابه «التعرف على الفاشية» ، فبالنسبة للفيلسوف والكاتب الإيطالي، فان الفاشية ، هي قبل كل شئ «توليف افكار متناقضة ولعب بالكلمات»، ولكن السمة البارزة للفاشية ، هي انها ايديولوجية شمولية ،تسعى الى استيعاب كل مناحي الحياة : سيطرة على الحياة السياسية والإعلام الذي يتحول الى الة بروبغندا مرعبة وممارسة الارهاب الفكري والمادي عبر استخدام القوات الحاملة للسلاح وخضوع المواطن للدولة واستهجان حريته الفردية ، وهي كأي فكر شمولي تحوّل الايديولوجية الى ديانة مقدسة ، ومن مميزات الدولة الفاشية، ايضا، انتشار الثقافة الامنية والعسكرية ، التي تسعى للسيطرة على كل مجالات الحياة المدنية وكل جوانب المجتمع ، وتسخّر العسكرة الى خدمة القائد الاوحد الذي ينوّع من الوحدات العسكرية والامنية ، ويختزل بالعنف والدعاية الدولة في شخصه،،
وبينما يرى بعض المحللين ان هناك فروقا هامة بين الشعبوية والفاشية ، فالاولى ليست ايديولوجية للتطبيق، وان تتهم الديمقراطية بالعجز وتحاول الدوس على بعض مبادئها ، مثلما حدث مع ادارة دونالد ترامب ، الا انها لا تتجاوزها ، مدعية بانها تحاول تقويتها واصلاح اخطائها، أما الثانية – الفاشية- فانها تستخف بكل المؤسسات وترفض التعدد وتشدد على التعصب الوطني والقومي، الا ان الواقع يفنّد ذلك ، فالشعبوية تستلهم الكثير من الافكار الشمولية ومنها الفاشية ، فجمهور الحاكم الشعبوي يعتقد انه يمثل غالبية الشعب الصامت ، الشعب «النقيّ» من كل «أدران الفساد» والذي يسمو على شرور «النخب الفاسدة»، وان لم تفعل الشعبوية الحديثة في اوروبا ما فعلته النظم الشمولية بين الحربين بحكم وجود مؤسسات ديمقراطية قوية ، الا انها شوهت الديمقراطية ، وجردتها من عديد المفاهيم الانسانية ، فغذّت العداء الثقافي و الخوف المرضي من الاخر والعنصرية....
• المنطقة العربية والتجربة القومية:
ويلتقي الخطاب القومي –العربي، خاصة- مع الشعبوية في المشترك الرومانسي والطوبوي احيانا في تمجيد الشعوب ونبذ النخب واعتبارها الى جانب «الاستعمار والصهيونية» مسؤولة على التجزئة واستدامة الدولة القطرية ورفض الاعتراف بحقوق الاقليات واعتبارها «من صنع الاستعمار» بهدف الحيلولة دون الوحدة وتفتيت البلدان واضعافها امام التحديات الخارجية، ففي كلا الحالتين ، هناك امة ، وشعب متناغم، وقائد يوحّد ويلبي تطلعات ابناء الوطن ونخب مغتربة، تحاول التقسيم والتفتيت عبر افكار وقيم دخيلة...كما انه لا يهتم كثيرا بالحرية التي وجب التضحية بها في سبيل بناء الامة. وفي نقده للفكر القومي يرى الباحث السوري ، جاد الكريم الجباعي ان الادعاء بتأجيل الحرية حتى بناء الامة ، ادى بالدولة القومية الى خسارة الاثنين: فلا هي استطاعت بناء الامة ومحاربة اعدائها ، ولا هي مكّنت المواطن مما يستحقه من حرية وكرامة:» فالحرية أهم من الأمة وأهم من الوحدة العربية وأهم من الدولة القومية واهم من الاشتراكية وغيرها ،، لأنه ليس لهذه جميعا ولغيرها ايضا اي قيمة من دون الحرية ومن دون الكرامة الانسانية» (أورده الكاتب توفيق المديني)، وكاي فكر شمولي ، يختزل الفكر القومي الدولة في القائد الملهم الذي مهما فعل واخطأ، فهو يمثل «الارادة الشعبية»، حاضرا ومستقبلا،، وتعتبر كل الأصوات المنادية بالحرية والديمقراطية « اصواتا عميلة وخائنة»، غايتها اعاقة الوحدة، لذلك لابد من تطهير المجتمع منها...
وان عرفت المنطقة العربية بعض او جُل هذه التجارب الاستبدادية المريرة ، تحت مسمّيات عدة،وخبرت الشعوب الدمار الذي خلفته على مدى عقود، لا فقط على مستوى البلدان و ديمومة تخلفها ، بل حتى على مستوى تكوين الشخصية العربية المعقدة والمهزوزة، الا ان نهاية هذا النفق تبدو بعيدة المنال ، فكلما التأم جرح وبان أفق مضئ ، عدنا الى المربع الاول، مربع الاستبداد.