وخلال العقدين الاخيرين، عرفت الرأسمالية ازمات متتالية مقابل انتفاضات متعددة ، دون ان يكون لذلك تأثير على النظام النيوليبرالي ، وبينما يتقدّم اليمين المتطرف و يتوسع على مستوى شعبي ، فان اليسار لم يتعلّم من اخطائه السابقة وواصل سياسة الانكار ، مما زاد من انحسار تأثيره بالرغم من الغضب الشعبي المتصاعد الناتج عن الحيف الاجتماعي المتصاعد ،
والمفارقة اليوم هي ان اليمين الشعبوي هو الذي ينتقد بشدة الاثار السلبية للعولمة النيوليبرالية « التي تمتاز بسرعة تنقل السلع والخدمات ورأس المال والبشر» ، بينما كان المفروض و»المنطقي» ان تعاقب الشعوب الاحزاب الليبرالية واليمينية التي ساهمت في تقلّص دور الدولة الاجتماعي وفتحت الحدود امام تنقل السلع ورأس المال وحجمت دور النقابات لترسي هشاشة التشغيل وتتخلى عن جل المكاسب الاجتماعية وان تمّكن اليسار من لعب «الدور التاريخي» الذي طالما تعهّد به ، اي ان يحدّ من شجع رأس المال ويدافع على الحقوق الاجتماعية بما فيها حق الشغل والتغطية الاجتماعية وان يدافع على الحقوق المدنية والسياسية ، بما فيها حق اللجوء والهجرة ...
والحقيقة ان الهوّة القديمة بين اليسار واليمين بدأت تأخذ ابعادا اخرى اكثر تعقيدا من تلك التي عرفها القرن العشرون ، فلم يعد اليمين دائما محافظا ، متمسكا بالثوابت الرأسمالية وبقيم العائلة والهوية ونواميس الطبقة ولم يبق اليسار وحيدا في الدفاع عن الطبقات المسحوقة والمهمشين والمهاجرين اضافة الى التحوّلات المتسارعة في تشكّل الكتل الطبقية واوهام الثراء السريع الذي خلقه النظام العالمي الجديد...فالعولمة وقوانينها وارتداداتها ، وكذلك ثورتها المعلوماتية ، فرضت انماطا جديدة من التعامل وأبرزت تحديات جديدة في العلاقات الاجتماعية .
لكنّ ولئن اطنبت الصحيفة في الحديث عن تقصير اليسار في مواكبة التحولات الاقتصادية والمالية المتسارعة وايجاد الخطاب المقنع والمناسب للتصدي لنتائجها والتكيّف مع المتغيرات العالمية وارتداداتها ، إلا أن الصحيفة لم تعرّج كثيرا على فشل التجارب الريادية والتي كانت في وقت ما ، منارة وقبلة للمثقفين والكتاب الاوروبيين في زمن كانت فيه الايديولوجيا ، تماما مثل الدين تلتفت الى قبلتها وبوصلة صلاتها ومرجعيتها ، فلم تتحدث الصحيفة عن مالات الثورة الروسية وتفكك اجزائها واحلافها وتحوّل الصين الى بلد رأسمالي بغلاف اشتراكي مع المحافظة على سيطرة الحزب الشيوعي ، مما يوحي بتناقض مسارين : الانفتاح الاقتصادي من ناحية والحفاظ على بيروقراطية الدولة والانغلاق السياسي من جهة اخرى ، فهل يحق للنقابات العمالية الان الاحتجاج على سياسة الدولة في الصين؟ وهل يحق للفلاحين التظاهر ضد الاجراءات التعسفية التي تتخذ احيانا ضدهم؟
ولعل احد ابرز اسباب انحسار الفكر اليساري بشقيه الاشتراكي والشيوعي يكمن في غياب الانسجام بين الفكر والواقع ، فمشاكل الواقع ومتغيرات العلاقات الاقتصادية والاجتماعية لايمكن ان تجد اجابات جاهزة في مراجع الماضي ولا يمكن لمن يقرأ الواقع بتعالي «المثقف الطلائعي» ان يقنع من حوله بانه يمتلك وحده مفاتيح التغيير.
• يسار فرنسا: التفاؤل الحذر:
ولئن استوعب اليسار الفرنسي درس فشله في الانتخابات الرئاسية وتمكن من ارساء تحالف اشتراكي – شيوعي –بيئي ، اسماه الاتحاد الشعبي الاجتماعي البئي الجديد ، NUPES ، بقيادة السياسي المخضرم جون لوك ميلنشون ، و حقق نتائج جيّدة في الدورة الاولى للانتخابات التشريعية ، ويتطلع الى نتائج الدورة الثانية ، معولا على تأييد بعض المجتمع المدني الفرنسي والمثقفين الحاملين للتقاليد اليسارية والجيل الثاني والثالث من المهاجرين وسكان المناطق المهمشة ومتحديا السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجتها فرنسا في العقود الاخيرة سواء كانت في ظل حكم اشتراكي او يميني ، فان بعض التفاؤل الحذر لا يمنعنا من طرح الاسئلة التي تؤرقنا : هل سيساعد اليسار ، في صورة فوزه ، على سنّ سياسة هجرة مختلفة عن بقية بلدان اوروبا ؟ وهل سينجح في الرجوع بفرنسا الى سياسة اقتصادية واجتماعية تنهض بالطبقات الضعيفة ، متحديا السياسة المالية والنقدية الاوروبية؟ وهل سيفرض سياسة خارجية مختلفة ، سياسة تحترم حق الشعوب في الحرية ولا تهادن شركاء فرنسا المستبدين؟ والاهم ربما ، كيف سيفرض رؤيته في كنف تعايش صعب؟
نحن ندرك انه في عالم السياسة ، كثيرا ما تختلف حسابات الحقل عن حسابات البيدر وتختلف الحملات الانتخابية عن ممارسة المسؤولية بما تفرضه من تعقيدات ، ولكن المهم يبقى دائما ان عجلة الانتخابات تدور في الديمقراطيات والكل يسعى الى ان يترك بصماته في انتظار امكانية ترشحه مرة اخرى، في المقابل ماذا عن دول تغيب فيها الشفافية والانتخابات المستقلة، مثل الدول العربية، اين يعيش اليسار غربة وتشتت بين بوتقة ايديولوجية لم يستطع التحرر من سيطرتها وبين واقع لم يتمكن من فهم متغيراته؟
• الانتفاضات العربية:
اظهرت الانتفاضات العربية بروز فاعلين جدد ، لا علاقة لأغلبهم بالأيديولوجيا ولا بالانتماء السياسي ولا يحفظون النظريات عن ظهر قلب ، اغلبهم شباب مهمّش ، لايسعى الى قلب المواقع الطبقية ، بل يريد ان يكون له كرامة المواطن في الشغل والحرية والمساواة ببعدها الحقوقي، وهو ما عبّر عنه المفكّر اللبناني ، فواز الطرابلسي ، عندما قال ان الانتفاضات العربية تسعى الى «تفكيك انظمة الاستبداد واستبدالها بأنظمة ومؤسسات وتشريعات جمهورية ديمقراطية مدنية» والحقيقة ان احد اسباب التراجع الذي عرفته هذه الانتفاضات ان الجمهورية الديمقراطية ذات التشريعات الدستورية، ظلت هلامية عند سقوط الديكتاتوريات و لم تحدد ملامحها ولا افقها ولا التيارات والقيادات التي تحمل مسارها ، مما سهّل من امكانية الاستيلاء عليها ، اكان ذلك من قبل احد ى تلوينات بقايا الانظمة الاستبدادية (بتمظهرها العسكري او القبلي) او من قبل الحركات الاسلامية او ايضا عن طريق شعبوية ركيكة تستبطن الاستبداد باسم «ديمقراطية مبتكرة» .
• اليسار التونسي: تاريخ من النضال والتشرذم:
لليسار التونسي تاريخ طويل من النضال سواء خلال الاستعمار او في عقود دولة الاستقلال ، اذ كان منذ اواخر ستينيات القرن الماضي من اول القوى التي واجهت نظام بورقيبة واول من كان ضحية قمعه ، حيث تتالت محاكمات وتعذيب الطلبة اليساريين الذين لم يكتفوا بالمطالبة بنقابة طلابية مستقلة ، بل كانوا يرومون الجمع بين النظرية والتطبيق ، محاولين ملاءمة الايديولوجيا لقراءة العلاقات الاجتماعية للمجتمع التونسي، حتى يصيغون بدائل الحكم خارج اسوار الجامعة.
ورغم تشرذم مختلف مجموعاته وصراعاتها التي فسحت المجال لسيطرة الاسلاميين في فترة مهمة من الثمانينات وقلّصت من تأثير الاتحاد العام لطلبة تونس الا ان اليسار التونسي قد اثرى الى حد بعيد العمل السياسي وربما بدرجة اهم ، العمل النقابي والحقوقي، ورغم غياب رؤية تحليلية واضحة للثورة التونسية الا انه اطّر بشكل كبير العديد من شعاراتها...
وكاد اليسار التونسي ان يكتفي بان يكون عنصر احتجاج ومقاومة لولا وصول الجبهة الشعبية بعدد مهم الى البرلمان في الانتخابات التشريعية لسنة 2014، وكان ذلك امتحانا لمدى قدرتها على الاستفادة من الامساك بأحد خيوط السلطة والتأثير في مسارها، الا ان الاداء السياسي كان ضعيفا ، فبالإضافة الى الصراعات الداخلية وغياب التنسيق ، لم يتجاوز الاداء السياسي مناكفة الاسلاميين وقطع الجلسات بطريقة بهلوانية والصراخ ومحاولة البروز كالمدافع عن الطبقات المسحوقة ، دون تقديم رؤية واضحة او حلول ذات مصداقية ، بل ساد التردد حتى في اكثر القضايا عدلا ، منها خاصة الموقف من المساواة في الميراث الذي اقترحه الرئيس الباجي قائد السبسي ...وكان ذلك الاداء احد اسباب خسارة قاعدتها الانتخابية في انتخابات 2019.
• 25 جويلية والتشظي:
عجز اليسار عن الفعل السياسي خلال الازمة التي سبقت 25 جويلية 2021، وقد ركّز كعادته على نقد اداء الحكومة ومكونها الاساسي ، حركة النهضة ، وجاءت اجراءات قيس سعيد لتثبت امرين : اولا، غياب الثقافة الديمقراطية لدى اغلب مكونات اليسار ، ثقافة تحترم المؤسسات وتعترف بالخصوم السياسيين، ثقافة تترفع عن الانتقام والتشفي والاصطفاف السريع غير المدروس ، وحتى بعض مكونات المجتمع المدني المنحدرة اساسا من الخلفيات اليسارية ، وان كان لها الدور المهم قبل انتفاضة 2011 وبعدها ، الا ان المخزون الايديولوجي والحزبي الكامن في اللاوعي وجد في هذه الاجراءات اللحظة المناسبة للتجلّي ، كاشفا ان الطبع يغلب التطبع وان القشرة الحقوقية تخفي احيانا موروثا تصنيفيا قاطعا يرفض الاختلاف.
وهنا لا يمكنني الا ان استحضر سؤالين مهمين طرحهما بعد 25 جويلية 2021 الباحث سفيان جاب الله ، هو الذي ينسب نفسه الى اليسار الجديد، حيث تساءل «الم نصوّر الاغلبية الحاكمة في صورة غول يحاصرنا فاذا بنا نغدو اقل الفاعلين قدرة على التأثير في المشهد الحالي؟» واذا ما اسملنا ان الاغلبية المنتخبة لم تكن تخدم مصالح الشعب الذي انتخبها، فما هو البديل ؟» هل هو احتكار رجل واحد للقدرة على تحديد من هو الشعب ومايريده وما يصلح به؟» اعتقد ان الاجابة تحدد تموقع اليسار ، بكل تلويناته ، في المشهد الحالي .
منبــــر: اليسار بين إرهاصات الإيديولوجيا وإكراهات الواقع
- بقلم مسعود الرمضاني
- 13:27 20/06/2022
- 1568 عدد المشاهدات
في عدد جانفي 2022،خصصت الشهرية الفرنسية «لوموند ديبلوماتيك» ملفا حول ازمة اليسار، لا في فرنسا فقط ، بل في العالم ، مقالات تحليلية تفسّر في مجملها أنه،