فخلال الثورة الفرنسة في القرن الثامن ومن أجل إشباع غريزة الجماهير الهائجة المتعطشة للثأر والانتقام، تمّ قطع رأسي ملك وملكة فرنسا ظنا من قادة الثورة، أنّهم بذلك يطوون الصفحة السوداء من تاريخ فرنسا ويفتحون صفحة جديدة ناصعة، لكن دماء «لويس « و»ماري أنطوانات» لم ترو ضمأ الثورة والثائرين وامتدّت المقصلة لتحصد رؤوس القادة الذين حكموا على الملك بالإعدام، وكذلك رؤوس الآلاف من أفراد الشعب الذي قام بالثورة
وفي روسيا لم يوقف إعدام القيصر المخلوع «نكولاي الثاني» وأفراد عائلته، شلال الدم الذي جرى جداول بعد الثورة، وعرف أبرز قادة الثورة البلشفية نفس مصير القيصر، وحتى جزء من الشعب الذي حمل الثورة على أكتافه عاش بعد نجاحها حملات التهجير القسري والزج في المعتقلات.
ألمانيا واليابان كادتا أن تُنسفا من الوجود بسبب تهوّر وغطرسة قادتهما الذين زجوا ببلديهما في حرب مدمّرة طمعا في اقتسام العالم، وبعد هزيمتهما ذاقا الشعبين مرارة وذل الاحتلال.
وفي أمريكا في مرحلة كادت أن صورة «الحلم الأمريكي» وشعارات الحرية ورفاه، بسبب إعدام المناضلين الأناركيست «ساكو» «وفانزيتي» في 1927، و»جوليوس رزنبارغ» وزوجته «إيثال»، سنة 1953 وبسب الجرائم العنصرية ضد مواطنيها السود وحملات الاضطهاد «المكارتي» التي مست الآلاف من رجال الفكر والسياسة والفن بسبب آرائهم
وفي الصين بلد الأكثر من مليار نسمة، حين حاصرها العالم ردت عليه بحصار شعبها الذي أخضعته لتجارب قاسية خلال الثورة الثقافية، والتي ذاق فيها ذلك الشعب شتى صنوف العذاب عند تطبيق نظرية الاعتماد على النفس ومحو الفوارق الطبقية، لقد تحدث المئات من المثقفين والفنانين والمواطنين العاديين عن الويلات التي عاشوها في مراكز إعادة التأهيل في أكبر عملية غسيل للأدمغة لفسخ الأفكار الرجعية من رؤوسهم.
لكن تلك المجتمعات رغم تلك المصائب والمآسي التي حصلت بها لم تتوقف عندها للبكاء والعويل وجلد الذات، واتجهت للبحث ولتفكيك تلك الوقائع والكبوات للكشف عن أسبابها لتجاوزها
ففرنسا شهدت موجات من التقييمات والمراجعات للأحداث الهامّة التي حصلت بها في حقب مختلفة من تاريخها، وكان للكثير من مفكّريها الجرأة توصيف العنف الذي حصل بعد الثورة الفرنسية بالجريمة وأنّه أقرب إلى الاستبداد والغطرسة منه إلى التحرر والإنعتاق.
وبعد تسعة وأربعين عاما من إعدام «ساكو» «وفانزيتي» اعترفت الدولة الأمريكيّة بخطئها الفظيع في حقّهما وأعادت إليهما الاعتبار في موكب رسمي أقيم سنة 76بالبيت الأبيض تحت إشراف الرئيس الأمريكي نفسه. كما أعيد فتح ملف الزوجين رزنبارغ ونقضت المحكمة العليا التهم الموجهة إليهما وأعلنت براءتهما بعد أربعين عاما من إعدامهما وأعتبر ذلك انتصارا لأمريكا العدالة والقانون على أمريكا الظلم والعنصرية
وفي روسيا وبعد أن تم العثور على رفاة عائلة الرومانوف بعد ثمانين عاما من إعدامهم، نظمت لهم الكنيسة الأرثودوكسية جنازة مهيبة شقت شوارع «سان بطرسبورغ» تحت قرع الأجراس وأعلنتهم في مرتبة القدسيين، وكان اصطفاف الآلاف من أحفاد شعب ثورة 17 أكتوبر على جنبات الطرقات يوم الجنازة وهم يرفعون قبعاتهم خشوعا للموكب المهيب بمثابة الاعتذار لعائلة الرومانوف ولتاريخ روسيا عن ذلك الجرم الأحمق الذي لوث الثورة البلشفية ونبل قيمها
وقد أعطى الشعبان الألماني والياباني، بعيدا عن الضوضاء والشعارات الخاوية، درسا لشعوب العالم، لا مثيل له في الوطنية والصبر والعزم الذي لا يلين، فبسرعة قياسية أعادا بناء وطنيهما وأعلياها إلى الصدارة في العلوم والاقتصاد والسياسة،
والصين بعد أن انفتحت على العالم، حضرت لديها حكمة « كونفسيوس» والروح الصينية العظمية، وعرفت كيف تغير وجهتها دون أن تهدم ماضيها، وجعلت من انفجارها البشري قوّة إنتاج وإنتاجية ونمو، فباتت تنافس أقوى اقتصاديات العالم، واستبعدت من لغتها، التلويح بالمواجهة العسكرية وجعلت من الاستثمار والتّجارة أقوى سلاح فرضت به وجودها على العالم
وفي خضمّ كلّ ذلك أين مجتمعاتنا ممّا يحدث في العالم والتاريخ يسير بالشعوب كقطار مجنون لا يعبأ بمن عبر ومن علق؟ و
بسهولة يمكن للمتأمّل أن يكتشف أنّ التاريخ عندنا إمّا متوقّف أو يسير إلى الخلف، وأنّ مجتمعاتنا ما زلت عالقة في قضايا نوعية الحكم، والهوية وتفاصيل الحياة اليومية ، مازلنا إلى حدّ اليوم نتدخّل في علاقة الفرد بمعتقده ونبحث في الزواج العرفي وفي صلا ة التهجد وفي المجاهرة بالإفطار رمضان، فيكفي أن تلقي نظرة على كتابتنا وتعاليقنا على مواقع التواصل الاجتماعي لتعرف الغرائز العدوانية ونوازع الثأر والانتقام وتصفية الحسابات وسحل الكرامة الكامنة فينا وهي التي تطبع حواراتنا وسلوكياتنا، ربّما فشلنا في التحاور في ما بيننا، يفسّر إلى حدّ ما إلقاءنا مسؤولية تدهور أوضاعنا وأحوال مواطنينا على الديمقراطية، وتجد من يهلل ويصفّق منّا لانتكاستها بالمنطقة و نعود بقوّة لإحياء صورة « المستبد العادل» الذي يجمع كلّ السّلطات بيديه كي يحكمنا ويضعنا جميعا على السكة كالقطيع
لم تفهم مجتمعاتنا أنّ الديموقراطية هي ثمرة الفكر الإنساني منذ العهود القديمة وتطوّرت في مفهومها الحداثي التنويري في الثلاثة قرون الماضية بأروبا، وأنّ العيب فيما يحصل لمجتمعاتنا ليس في الديموقراطية، بل في البني الاجتماعية المتخلّفة وفي المشاريع الماضويّة المسيطرة عليها والتي لا علاقة لها بالديمقراطية وأُريد إقحامها عنوة فيها.
لقد تأخّرت تلك المجتمعات كثيرا في مراجعة تاريخها وتفكيك ألغازه وبقيت أسيرة قراءاتها العاطفية والانفعالية وتجد نفسها مضطرّة لاستدعاء الماضي لمواجهة الإشكاليات التي تطرح أمامها في الحاضر، وفي الوقت الذي تغرق فيه أكثر في غيبوبتها تزداد إيمانا بأنّنا بصدد الإتيان بالمعجزات وأن العالم يحسدها على قدرتها على صنع الأقفال التي تمنعه من اختراقها .
وهنالك طرفة تقول « إننا لسنا بصدد إبهار العالم لقدرتنا على تبنّي الشيء ونقيضه فقط» بل أكثر من ذلك، إننا بصدد إذهال العالم بقدرتنا على إقناع أنفسنا بأنّ السير إلى الخلف هو أسلم طريق لنا لبناء المستقبل.
أزمنة الشدائد وأزمنة الحماقات
- بقلم مصطفى بن أحمد
- 10:55 28/04/2022
- 1174 عدد المشاهدات
كلّ شعوب الدنيا في مراحل معينة من تاريخها شهدت الكثير من المحن والشدائد، وارتكبت أثناها أخطاء فظيعة غيرت مجرى تاريخها