لماذا تراجع النظر واشتدّ التديّن؟ في بضع سنين، تغيّر في تونس كلّ شيء. في عقدين أو ثلاثة، انقلب الوضع رأسا على عقب...
في السبعينات من القرن الماضي وما السبعينات بالزمن الغابر، كان الناسّ في بلدي في حركيّة، في تطلّع. يعملون العقل. يعيدون النظر في ما ذاع من سلوك وفي ما كان من فكر دائر. انتشر أيّامها التعليم. علا شأن المدرسين وغدت المدارس هي القبلة وهي الشمس وهي الضياء...
في تلك السنين، كنّا نأخذ من الغرب سيره وفنونه. نقتبس منه علومه ونظمه. أيّام حكم بورقيبة، كان التفتّح على الدنيا منهجا وسلوكا عامّا. كان التعليم لدى الناسّ هو السبيل إلى الحياة، هو الموفّر للحظوة، للأرزاق. كان العقل هو المرجع وهو الدافع وهو المؤسّس لكلّ بناء...
انتهى ذاك الزمن الجميل. مع الثورة وقبلها بسنين، تهرّأ الحكم. ضعفت الدولة. علا في البلاد الصخب. شدّ الناس هوس وإرباك. اضطربت الأنفس فعاد الدين في الأرض، غازيّا. ها هم الأئمّة ينتشرون في الأرض. يخطبون في الناسّ. كثر في البلاد دعاة الغيب وأنصار السلف وأصحاب الخرافة. ها هو الغيب يأكل النفوس، يلفّ العقول، يحدّد سبل الناسّ.
مع سطو الغيب، أهمل التعليم. همّشت المدارس والمعاهد والجامعات. اشتدّ فيها التسيّب والإهمال. خفت فيها صوت العقل. تراجع الوعي العامّ. ها هو العقم ينتشر. ها هو الجهل يعمّ. ها هي المساجد في الأرض تعلو مناراتها. ها هو الدين يصبح مرجعا وملاذا. ها هم الأئمة أوليّاء على الناس. يأمرون وينهون. يحدّدون الحرام والحلال وسبل الحياة...
لماذا تراجع التعليم في تونس؟ لماذا ساء حال دور التعليم وشدّ أهله تشتّت وتسيّب؟ لماذا غرقت الجامعة في الظلمات بعدما كانت منارة فيها نار حاميّة؟
في السنوات الماضيّة، كثرت أعداد الدارسين وتقلّص دعم الدولة. هجّ البلاد الكثير من خيرة الأساتذة. انقطع عن الدرس الكثير من التلاميذ والطلبة. حصل في التعليم تهميش وإهمال. في الجامعة، هناك شبه إدارة مع أشباه طلبة مع أشباه أساتذة. الكلّ ضائع، هائم، غير مقتنع بما هو يقول وبما هو يأتي. الكلّ في استقالة، يأكله اليأس وتسكنه اللّامبالاة...
نفس السواد تلقاه في المعاهد وفي المدارس. أكثر من مائة ألف تلميذ ينقطعون سنويّا عن الدروس. يهجرون الأقسام، دون تكوين، دون تمكّن، دون دراية. خرّيجو المعاهد، جلّهم، يشكون الجهل وضعف المقدرة. خرّيجو الجامعات، أغلبهم، لا يحسنون صناعة ولا مهارة ولا كلاما. لا يملكون فكرا ولا صوابا. هم أشباه أمّيين رغم ما كسبوا من شهائد عليا ورغم ما اجتازوا من مناظرات...
منذ حوالي عقدين، غدت دور التعليم في تونس مستودعات يلتقي فيها الشباب. تكيّات موحشة يتجمّع فيها الفقراء والعجّز ومن لا غاية له في الحياة. يؤمّها الدارسون والمدرّسون دون اقتناع. الكلّ تراه يمشي ويجيء ولا يدري لماذا. الكلّ يدخل ويخرج دون محصول، دون نتائج...
في حين ترى المساجد في كلّ حي، شامخة، مرفوعة الرايات، فيها صوامع بهيّة وقبب عليّة، فيها ثريّات فاخرة وساحات رخاميّة، ترى دور التعليم في بؤس وإهمال. في المساجد، هناك أنوار ومكيّفات وماء يجري وأشجار مظلّة ونخيل عال. في دور التعليم، هناك أقسام بائسة وتجهيزات رثّة، أكلها الزمان. لا وجود في الجامعة للكتب العلميّة، للبرمجيّات، للحواسيب، للمجلّات. في الكثير من المدارس والمعاهد والجامعات، مازال التعليم بالطباشير وباللوحة. في الريف، دور التعليم مستودعات موحشة. لا تجهيزات فيها ولا مراحيض ولا ماء. بعضها ينذر بالسقوط على رؤوس الصبية والناسّ...
في حين ترى كبار القوم والرؤساء والوزراء وأهل السيف وأصحاب الحظوة والمال يؤمّون المساجد. يصلّون فيها أيّام الجمعة والأعياد. يستمعون في خشوع إلى يقوله الأئمّة من توجيه وإرشاد، ترى أهل التعليم في وضاعة، في تهميش تامّ. لا أحد من الناسّ يهتمّ بما يأتونه من قول ومن فعل. لا أحد يوليهم عينا ولا أذنا. تنظر في وجوههم فتلقاها كالحة. تستمع إلى ما يقولونه فتراهم يلوكون خطبا لا تصلح، باليّة...
في ظلّ ما كان من تهميش وتسيّب، تراجعت قدرات المدرّسين. ها هم في الأقسام، يعيدون ما حفظوا من معارف قديمة، تجاوزها الزمان. ها هم يتغيّبون، يضيّعون الوقت. يقولون تفاهات. في ما أرى، غدا الكثير من رجال التعليم أدوات لنشر الجهل. غدا الكثير من المدرّسين معاول هدم لا معاول بناء...
• من أفسد التعليم في تونس؟
أوّلا، الدولة. الدولة هي من أفسدت التعليم وقد غضّت النظر عمّا يجري فيه من تبعثر وإهمال. انشغلت السلطات بالقضايا «العاجلة». بمعالجة ما كان في البلاد من فوضى ومن نار. منذ أكثر من عقدين وفي تونس اضطرابات ونار. مع الثورة، اشتدّ نسق الاضطرابات. أصبحت الفوضى في البلاد عارمة. مع الثورة، انكسر سيف الدولة. ضاعت البلاد. لا أحد اليوم فيها يأمر. لا أحد اليوم فيها ينهى. يتدبّر. يتابع، يحدّد المسارات.
في ظلّ ثورة مشتعلة، من له القدرة على إصلاح منظومة ثقيلة، عروقها في الأرض ضاربة؟ من يجرأ على إصلاح قطاع التعليم وفي قطاع التعليم نقابات متمكّنة، مشاكسة؟ كيف الإصلاح وفي المدرّسين اشتدّ التسيّب وانتشر في الجسم كسرطان خبيث؟
رغم ما كان في البلاد من فوضى ومن نقابات عنيدة، تبقى الدولة هي المسؤولة عن التعليم وهي السبب في ما يشكوه اليوم من سوء ومن ضياع. التعليم كالقضاء كالصحّة كالأمن هي من منظور الدولة وكان على الدولة أن تهبّ لإنقاذه وإصلاحه.
لأنّ التعليم قضيّة محوريّة، أولويّة مطلقة، كان على السلط أن تنظر فيه. أن تنهض به. أن تمكّنه من الوسائل. أن تتابع عن كثب حاله وأحواله وسيره اليوميّ. لكنّ الدولة لم تفعل وتلهّت بأشياء أخرى فهمّش التعليم وأهله وساء المردود وعاد الغيب فيها منتصرا، سليطا...
ثانيّا، خرّبت النقابات التعليم. بعد الثورة، أصبح اتّحاد الشغل قوّة في البلاد معتبرة. أصبحت المنظّمة الشغّيلة في تونس صاحبة الأمر والنهي. لا أحد في البلاد يردّ لها قولا. لا أحد يقدر عليها. لتظلّ صاحبة اليد العليا، انتهجت النقابات سياسة التصعيد المستمرّ. في الجامعات، في المدارس، في المعاهد، هناك دوما نزاعات تتجدّد وإضرابات تتكرّر. مع ضعف الحكم المركزيّ، اشتدّ عود النقابات وها هي اليوم تسيّطر. ها هي تعرقل كلّ تغيير وتمنع كلّ نظر. بل هي، في ما أرى، تتعسّف وتزيد التعليم سوءا وغرقا...
غداة الثورة، تمكّنت النقابات من السيطرة على قطاع التعليم سيطرة مطلقة. النقابات هي اليوم من يعيّن العمداء والمدراء. هي من يقرّر الترقيّات والنقل والمنح. هي من يحدّد أيّام الدراسة والعطل والامتحانات. النقابات هي المشرفة الحقيقيّة على دور التعليم، على ما يجري فيها من كبيرة وصغيرة. أمّا سلط الإشراف فدورها شكليّ ولا حول لها ولا قوّة...
كلّ السلطات في تونس بعد الثورة أصبح دورها شكليّا. عند كلّ إشكال وفي كلّ مسألة، ترى الوزراء والمدراء وكلّ المشرفين في دوائر الدولة في خنوع، في انصيّاع. لا أحد منهم يرفع إصبعه. لا أحد منهم يجرأ. يقول. يصدّ. الوزراء والمدراء وجلّ المسؤولين، هم اليوم أدوات طيّعة في أيدي النقابيين. همّهم خدمة اتّحاد الشغل ورجاؤهم عونه ورضاه...
ثالثا، أفسد المدرّسون التعليم بمراحله وقد استقالوا وأداروا وجوههم وظهورهم عنه. أدرك أهل التعليم أن لا أحد اليوم في القطاع يتابع، يراقب، يردع وأنّ النقابات وحدها هي الحاكمة بأمرها. كلّ العاملين في القطاع العموميّ تخلّوا عن سلط الإشراف وولّوا وجوههم إلى أهل النقابات. من النقابات هم اليوم يتقرّبون وإليها يتودّدون والى أوامرها يمتثلون... إن أمرت النقابات بالإضراب ترى الكلّ يضرب. إن أمرت بالاحتجاج تلقى المدرّسين في الشوارع يحتجّون دون أسباب...
مع الأيّام تجري، هجر المعلّمون والأساتذة دور التعليم. انتقلت الدروس من الأقسام العموميّة إلى الدكاكين الخصوصيّة. تحوّل المدرّسون من أعوان دولة إلى «مقاولين» وتجّار. يبحثون عن الربح. أحيانا تتعطّل الدروس في التعليم العموميّ ويبقى التدريس الخصوصيّ قائما، جاريّا...
مع الدروس الخصوصيّة، يأتي بعض المدرّسين أشغالا أخرى للحساب الخاصّ. هذا يأتي تجارة والآخر يأتي فلاحة. هذا إمام في المسجد وذاك عازف في الأعراس. أمّا الآخر فتلقاه في المقابر يقرأ ما تيسّر بمقابل. أمّا أولائك فقد حشروا أنوفهم في السياسة، في المنظّمات. كلّ قدر جهده يرتزق. كلّ حسب فكره وغاياته يتدبّر، يناور...
هذه الأيّام، تعيش تونس والعالم في ظلّ جائحة مفزعة. ها هو فيروس الكورونا يفتك بالناس، يميت الناس... في حين ترى العالم يبحث عن لقاح، ينظر كيف مغالبة الوباء والحماية منه، يلجأ شعبنا العظيم إلى المساجد بعد أن أغلقت دور التعليم ومراكز البحث والتدريس. في المساجد، فتح الأئمّة المصادح عاليّا لترتيل السور والآيات. «بالترتيل سوف يرفع الله الغمّ عن أمّة محمّد. بالصلاة سوف نقضي على الفيروس وننتهي بفضل الله تعالى من الوباء اللّعين»...
ها هو الشباب التونسيّ يخرج ليلا إلى الشوارع أفواجا، خارقا للطوارئ، يبتهل، يكبّر، يطلب مغفرة من الله ورحمة واسعة من العرش الرحيم. يدعو السماء أن ترفع ويل الجائحة وأن تحمي المسلمين دون سواهم من اليهود والنصارى وأعداء المسلمين...
ما فعله الشباب التونسيّ ليس بدعة بل هو سنّة متداولة في بلاد العرب. منذ أوّل العصور وكلّما حلّت بالمسلمين مصيبة، يمشي الناسّ إلى المساجد. يقرؤون القرآن. يصلّون النهار وفي الليل أحيانا. يستغفرون. يتضرّعون. بالتضرّع يرفع الله الهمّ عن الأمّة. بالصلوات تزول بحول الله كلّ شائبة ومصيبة...
يقول أحمد ابن أبي الضياف في كتابه «الإتحاف»: نزل على التونسيين في تلك السنين وباء وخيم. أهلك الناس وفتك بهم فتكا مبينا. بإشارة من شيوخ جامع الزيتونة المعمور، أمر الباي بجمع أربعين شابّا يحملون اسم محمّد لترتيل القرآن في باحة المسجد المعمور. يضيف الإتحاف، بعد أربعين يوما من الترتيل، استجاب الله لعباده وجاء الفرج ورفع من الأرض الوباء...
كلمة أخيرة أختم بها المقال... رغم ما أصاب دور التعليم في تونس اليوم من إهمال وما لحق برجاله وبنسائه من غبن وتهميش، رغم ما أصاب الفكر من امتهان وسحل، يبقى في قلبيّ قائما نور خفيّ، مضيء. يبقى عندي أمل قويّ...
هل ترى يا صاحبي مثلي ما في الأفق من ضياء ونور؟ هل ترى مثلي ما سوف يكون من هبّة عتيّة؟ أنا على يقين أنّ الحال لن يستمرّ على حاله. أنا على يقين أنّ الجامعة سوف تعود إلى عزّها وسوف تستعيد ما كان لها من سموّ وضياء بهيّ...
ما نراه اليوم من زحف للرداءة، من تغوّل للخرافة، هو ولا شكّ أمر ظرفيّ. ما نراه اليوم من سطو للغيب ومن انتشار للغباوة، قريبا، سوف ينتهي، قريبا، سوف يمّحي...
سطو الظلمات أمر غريب. انتصار الجامع على الجامعة أمر عجيب. هو عندي شذوذ. هو عندي عقوق. هو مرفوض. كيف لأهل الغيب أن ينتصروا والنصر كان دوما لأهل الفكر والنظر والخيال الجميل؟ كيف للخرافة أن تستقيم والعقل هو الصراط وهو السبيل المنير؟
لن ينجح عيش بلا عقل، بلا فكر، بلا نظر. لن يعمّر في الأرض من شدّه الغيب ومضت روحه إلى غابر العصور والزمن... قريبا، تطوى الصفحة. قريبا، تنتهي تونس من المأساة المهزلة. قريبا تنتهي الخرافة وترفع السماء ويعود كلّ إلى نفسه. قريبا، يعود الرشد إلى أهله ويشرق العقل مجدّدا، ساطعا، منيرا...
في ارتهان العقل وانتصار السماء
- بقلم شيحة قحة
- 10:50 20/04/2022
- 1220 عدد المشاهدات
انتصر الغيب على العقل. انتصر الجامع على الجامعة وهذا يؤلمني. يؤرّق نفسي. ما الذي جرى في بلدي؟ لماذا خفت نور الفكر واستبدّت الغيبيّات؟